القاهرة الخديوية

القاهرة الخديوية: رأينا في المقال السابق الجهود الحثيثة التي قام بها الخديوي إسماعيل في تطوير المعالم الحضارية بمصر، من خلال الانجازات والمشروعات الجليلة التي بقيت محفورة على جدران القاهرة الحديثة بمبانيها وشوارعها وميادينها، بخلاف أعمال الاصلاح في مجالات التعليم والزراعة والصناعة، فعندما تولى الخديوي إسماعيل عرش مصر عام 1863م، كان قد بلغ تعداد سكان القاهرة 270 ألف نسمة، وكانت مساحتها لا تتعدى 500 فدان، وتمتد من منطقة القلعة بسفح المقطم شرقا وتنتهي حدودها الغربية عند مدافن الأزبكية وميدان العتبة والمناصرة، ويفصلها عن النيل مجموعة من البرك والمستنقعات والمقابر والتلال، ومعظم أحيائها يدب فيها الاضمحلال العمراني، حتى وصل الامر إلى أن يقول كتاب الغرب “من يشرب من ماء النيل مرة يعود فوراً لبلاده ليعالج من إصابته بالملاريا والحمى المعوية بسبب طفح المجاري، مما جعل إسماعيل باشا يفكر في ثورة عمرانية، تعالوا بنا لنرى كيف إستطاع إسماعيل باشا تحقيق حلمه بتحويل القاهرة من مدينة البرك والمستنقعات الي باريس الشرق في القاهرة الخديوية.

طلب الخديوي إسماعيل من امبراطور فرنسا “نابليون الثالث” بأن يقوم المهندس الفرنسي «هاوسمان» الذي صمم مدينة باريس بتخطيط مدينة القاهرة الخديوية الجديدة، وضم التخطيط الجديد ما يلي:

نقل مجرى النيل الرئيسي: من مكانه القديم، حيث كان يمر بمنطقة بولاق الدكرور وبمحاذاة شارع الدقي حاليا وإمبابة إلى مكانه الحالي، كما تم نقل المجرى الذي حلت محله الآن حدائق الحيوان والأورمان وجامعة القاهرة وأحياء الدقي والعجوزة والمهندسين وإمبابة وبين السرايات بالجيزة، وبدأت عمليات تحويل مجرى نهر النيل أواخر عام 1863م.

ردم البرك والمستنقعات وإنشاء الميادين والشوارع الرئيسية: وشملت بركة عابدين وحول مكانها لميدان عابدين، كما ردمت بركة الازبكية وحول مكانها لحديقة الازبكية، كما حل محل جميع البرك والمستنقعات الميادين والشوارع الرئيسية مثل:

الميادين: ميدان العتبة الخضراء، وميدان باب الحديد، وميدان الاوبرا، وميدان الإسماعيلية (التحرير)، وغيرها من الميادين.

الشوارع الرئيسية: مثل شارع قصر النيل: ويعد واحدًا من أشهر شوارع وسط القاهرة وهو الوحيد الذى لم يتغير اسمه منذ إنشائه تقريبًا، و يمتد من عند المتحف المصرى حتى ميدان سليمان باشا، وشهد الشارع فى الماضى وجود العديد من المحلات التجارية الكبيرة مثل صيدناوى والصالون الأخضر وبه أيضًا عمارة الإيموبيليا الشهيرة.

ميدان طلعت حرب: لم يكن الميدان يحمل اسم “طلعت حرب” سابقاً، ولكن كان يحمل اسم شارع “سليمان باشا”، وقت الخديوى اسماعيل، نسبة إلى سليمان باشا الفرنساوى مؤسس الجيش المصرى فى عهد محمد على تكريما لجهوده، ثم تغير الاسم بعد ثورة يوليو إلى ميدان طلعت حرب مؤسس الاقتصاد المصري الحديث تخليدا لذكراة، وتم نقل تمثال سليمان باشا للمتحف الحربي.

عمارات بهلر: يتوسط ميدان طلعت حرب، مبني على طراز الآرت ديكو، يحمل اسم “عمارة تشالز بهــــلر، وهو رجل أعمال سويسري تعتبر تلك العمارة من أشهر أملاكه، بنيت عام 1924م وصممها المعماري الفرنساوى ليو نافليان، والعمارة تتكون من 6 مبان شبه منفصلة، ولكل منها مدخل خاص، وبها 130 شقة فاخرة، وبعضها مكاتب، أما الدور الأرضي فقد قسم إلى 72 محل مستقل، وتضم ممر تجاري شهير هو ممر بهلر.

ويضم الشارع أيضًا عمارات يعقوبيان وعمر أفندي وصيدناوي وعدد من المكتبات العريقة.

تعمير مداخل القاهرة الخديوية: والتي كانت عبارة عن خرائب ومدافن كأسواء دعاية تستقبل بها القاهرة من يدخلها من أي جهة، فتم تطوير المداخل وفق ما يلي:

المدخل الشمالي: وأطلق عليه “باب الحديد – ميدان رمسيس حالياً” كما تم تخطيط منطقة شبرا بالكامل، وأعد شارع شبرا الرئيسي كمحور لمدخل القاهرة الشمالي وزرعت على جانبية الأشجار، وفى عام 1872م افتتح إسماعيل شارع محمد على بالقلعة بطول 2.5 كيلومتر، فيما بين باب الحديد والقلعة على خط مستقيم، وزانه على الجانبين بالبواكي.

المدخل الشرقي: حول التخطيط مدخل القاهرة الشرقي إلى حي من القصور والبساتين بدلاً من حي مزارع الفجل وأحتفظ الحي بالاسم القديم وأصبح يطلق عليه منطقة الفجالة.

المدخل الجنوبي: تم تخطيط وتنسيق المدخل الجنوبي ويشمل حلوان والمعادي ومصر القديمة.

المدخل الغربي: من الاهرام حتى ميدان الجيزة، وقد قام الخديوي إسماعيل بإنشاء هذا الطريق مع رصفة وزراعة جانبية بالأشجار، ومنع البناء على الجانبين حتى مسافة 6 أمتار.

ربط شاطئ النيل بالكباري والجسور: قرر الخديوي اسماعيل في عام 1864م أثناء بناء سراي الجزيرة إقامة جسر يربط بين القاهرة والجزيرة بعد أن رأى أنه لم يعد من اللائق العبور من شاطئ جزيرة الاسماعيلية الى شاطئ الجزيرة على ظهر مراكب مربوطة بالحبال، كما تم تشييد 430 كوبري وجسور على النيل في عهد اسماعيل.

المــــــــــرافق: إشتمل تخطيط القاهرة الجديدة على شبكات كاملة للمرافق من شبكات مياه وصرف وإنارة، حيث كانت تعتمد القاهرة سابقاً على النزح والاضاءة بالقناديل والسقاية، كما تم رصف الشوارع وعمل أماكن للمشاة.

وقد إستغرق إعداد وتصميم وتنفيذ مشروع القاهرة الجديدة 5 سنوات، وبالفعل استطاع الخديوي إسماعيل بفريق العمل معه تحويل القاهرة إلى تحفة حضارية تنافس أجمل مدن العالم، ليطلق عليها باريس الشرق، وتتميز القاهرة الخديوية والتي تمتد من منطقة القلعة شرقاً، إلى الأزبكية وميدان العتبة غرباً، بأن بها مبان تحاكى القصور فى فخامتها وكأنها لوحات فنية مجسمة، وشوارع وميادين شهدت أحداثًا تاريخية مهمة، وبلغت مساحتها الجديدة 2000 فدان أى أنها تضاعفت 4 أمثال مساحتها الأصلية، وبلغ عدد سكان القاهرة 350 ألف نسمة بدلا من 270 ألف نسمة، ووضع التخطيط لاستيعاب 750 ألف نسمة تستقبلهم القاهرة الحديثة على مدى 50 سنة.

شوارع وسط البلد: شهدت شوارع وميادين القاهرة فى عصر الخديوي إسماعيل أبهى مراحل التطور المعمارى، نظرا لما تحتوية من بنايات تفوح بثقافات وتصميمات مبهرة، مبانى تؤرخ لشوارع القاهرة وترصد مرحلة مهمة من جمال مصر ونهضتها المعمارية، وما زالت صامدة رغم تعرض الكثير منها لأضرار مختلفة مع مرور الزمن، ولكنها تتعرض للاهمال علي مدي عقود، وتحتاج المباني التراثية إلي انقاذ حقيقي يشمل ترميمها من الداخل وليس الخارج فقط، وفحص الاساسات الخاصة بها حيث تشير تقارير عدة إلي أن أغلب العقارات تعوم فوق بحيرة من مياه الصرف الصحي والمياه الجوفية في بدروماتها والمخابيء التي كانت تستخدم في أوقات الحروب، والتي حولها أصحاب المحلات التجارية والورش إلي فناء خلفي لنشاطهم التجاري المضر والذي يظل معول يهدم العمارات السكنية القديمة التي يتجاوز عمرها مئات السنين ولو لم تتحرك الدولة سريعاً سوف يقع ما لا يحمد عقباه.

أجمل مدينة في العالم: كان هناك قانون ينظم تفاصيل دقيقة ومهمة لبناء المنازل والعمارات، كمقاسات النوافذ والأبواب وأشكالها، والمواد المستخدمة، وتناسق الألوان، وذلك حسب كل منطقة، حتى لا تكون هناك مباني ذات شكل غريب عن الطبيعة المتناسقة للبلد. وكان الهدف ألا تكون مصر فقط على نفس مستوى باريس أو لندن أو برلين، بل أن تكون لها مذاقها الخاص وأن تجتمع بها عناصر الحداثة والعراقة معاً، لذلك فقد فازت القاهرة بجائزة أجمل مدينة في العالم عام 1925م. متفوقة بذلك على كل دول أوروبا، و كان طموح لندن وباريس ان يصلوا لنفس مستوى جمال مدينة القاهرة. و لم تكن الأسكندرية أو باقي مدن مصر تختلف كثيراً عن القاهرة في جمال مبانيها، و حصول القاهرة على اللقب كان لحيثيات منها فخامة المباني و قياس نسبة التلوث و نظافة الشوارع و اتساعها و مدى قابليتها خلال عشرين سنة قادمة لاستيعاب الزيادة في الحركة المرورية مع ازدياد عدد السكان .. وهذا يوضح تقدم نمط الإدارة و التخطيط في مصر في العصر الملكي، ويعكس مدى رغبتهم في الحفاظ على مكانة مصر التي بدأت مع نهضة مصر الأولى أيام محمد علي باشا و نهضتها الثانية أيام الخديوي اسماعيل وظل ذلك حتى عهد الملك فؤاد و حصول القاهرة رسميا في عهده سنة 1925م على اللقب و استمرار الوضع في عهد الملك فاروق من بعده.

افتتاح قناة السويس: هي مجرى مائي يربط بين البحر المتوسّط والبحر الأحمر، ويمتد من بورسعيد شمالاً إلى السويس جنوباً، وقد قام الخديوي إسماعيل بافتتاح قناة السويس في حفل مهيب بمدينة الإسماعيلية عام 1869م، حضره عدد كبير من ملوك أوروبا وأمراؤها وعظماؤها وعلماؤها وأدباءها، بلغت نفقات الحفل مليون ونصف المليون جنيه، وأدى هذا البذخ إلى أغراق البلاد في ديون أجنبية ضخمة مهٌدت السبيل للأوروبيين للتدخل في شئون البلاد، ثم عرض الخديوي إسماعيل أسهم مصر البالغ عددها 177,642 سهما للبيع بسبب الديون، فقامت بريطانيا بشرائها مقابل أربعة ملايين جنيه، وأصبح لبريطانيا الحق في الاشراف على مرفق القناة، وزاد عدد الانجليز في مجلس إدارة الشركة إلى الثلث، واعتبرت ً إنجلترا هذه الصفقة مكسبا كبيرا لها وهزيمة ساحقة لفرنسا في الشرق. ثم تنازل الخديوي توفيق بعد ذلك عن حق مصر في الحصول على %15 من أرباح الشركة مقابل 800 ألف جنيه حصل عليها كقروض.

وقد أدَّت النزعة الاستقلالية للخديوي إسماعيل في حكم مصر إلى إحساس كل من إنجلترا وفرنسا بالقلق إزاء مصر، وتحت ضغطهما أصدر السلطان العثماني فرمانًا بعزله في ٢٦ يوليو عام ١٨٧٩م، وسافر الخديوي اسماعيل بعد عزله إلى نابولي بإيطاليا ثم انتقل للإقامة في الآستانة.

الخديوي توفيــــــــــق: إستلم الحكم في 26 يونيو 1879م. بعد أن أجبر الإنجليز والفرنسيون أباه الخديوي إسماعيل على ترك منصبه، وذلك عندما حاول استدراك ما فاته، وبعد أن أغرق البلاد في ديون أجنبية ضخمة مهٌدت السبيل للأوروبيين للتدخل في شئون البلاد، وعندما حاول إسماعيل التصدي للنفوذ الأجنبي، أجبروه على ترك منصبه لأكبر أبنائه توفيق الذي يعد أسوأ حكام أسرة محمد علي.

ثورة أحمد عرابي عام 1881م، والاحتلال البريطاني لمصر عام 1882م:

الوضع العام قبل المعركة: حاول الخديوي توفيق استرضاء الأوروبيين، فنفى المصلح السياسي جمال الدين الافغاني، وفرض العديد من القيود المالية التي طالب بها دائنو مصر، وذلك بموجب قانون التصفية الصادر عام 1880م، الذي خصص أكثر من نصف إيرادات مصر لصالح الدين العام، وبذلك تمكّن الأجانب من السيطرة على الاقتصاد المصري، كما تذمر الضباط المصريون في عهده من اضطهاد عثمان رفقي وزير الجهادية (الحربية) الجركسي، وإجحافه بحقوقهم وتفضيل الجراكسة والأتراك على المصريين.

توجه أحمد عرابي وزملائة إلى سراي قصر عابدين في 9 سبتمبر 1881 لعرض طلباتهم على الخديوي، مطالبين بعزل رياض باشا وتشكيل مجلس النواب، وزيادة عدد الجيش المصري إلى 18 ألف جندي، فقال لهم الخديوي توفيق: لا حق لكم في هذه المطالب، لقد ورثت هذه البلاد عن آبائي وأجدادي، وما أنتم إلا عبيد إحساننا.

فقال له أحمد عرابي: لقد خلقنا الله أحرارًا، ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا؛ فوالله الذي لا إله غيره، اننا سوف لا نُورَّث، ولا نُستعبَد بعد اليوم.

واستجاب الخديوي توفيق لمطالب الجيش حين رأى التفاف الشعب حول عرابي، وعزل رياض باشا من رئاسة النظار، وشكلت حكومة جديدة برئاسة محمود سامي البارودي، وشغل عرابي فيها منصب «ناظر الجهادية» (وزير الدفاع) ونائب رئيس مجلس النظار، غير أن هذه الخطوة الوليدة إلى الحياة النيابية تعثرت بعد نشوب الخلاف بين الخديوي ووزارة البارودي حول تنفيذ بعض الأحكام العسكرية، واشتدت الأزمة، وتعقد الحل، واستعان الخديوي توفيق بالإنجليز لحمايته، ووجدت بريطانيا في هذا الخلاف المستعر بين الخديوي ووزرائه فرصة للتدخل في شؤون البلاد، فبعثت بأسطوليهما إلى شاطئ الإسكندرية بدعوى حماية الأجانب من الأخطار، وبهدف تأمين استثماراتهم وضمان سياستهم التوسعية والاستيلاء على قناة السويس ثم التحكم في مصر، وهنا أعلن أحمد عرابي رفضه، واستصدر من شيوخ الأزهر فتوى بتكفير الخديوي توفيق وخيانته للدولة ومساعدة العدو لاحتلال أرض مصر، وصرّح بوجوب التعبئة العامة والتجنيد لمحاربة بريطانيا.

انتهت الثورة العرابية بهزيمة الجيش المصري بقيادة أحمد عرابي في معركة التل الكبير، وتم نفى أحمد عرابي وزملائه عبد الله النديم ومحمود سامي البارودي إلى سريلانكا، ومن أسباب الهزيمة: خيانة الخديوي توفيق، الذي ساند التدخل الأجنبي في شؤون مصر منذ بداية توليه الحكم، وخيانة بعض بدو الصحراء الذين أطلعوا الإنجليز على مواقع الجيش المصري، وخيانة بعض الضباط وخاصة علي يوسف، الذين ساعدوا الإنجليز على معرفة الثغرات في الجيش المصري، عنصر المفاجأة بالإضافة لقوة أسلحة الإنجليز.

المراجع:

Exit mobile version