إختيار العناية الالهية للبشرية
إختيار العناية الالهية للبشرية
حاجة البشرية لنبي مرسل: اقتضت حكمه الله أن يبعث في كل أمة رسول منهم، يعرفهم بالله ويرسم لهم الطريق الصحيح ليسلكوة، وقد سعى جميع الرسل والانبياء لرفع لواء الحق وإزالة الوثنية والشرك، وكان كل نبي يبعث إلى قومة فقط، ولمدة معينة من الزمن، فما من أمة إلا وارسل لها بشير ونذير، وكانت تنتهي مهمته إما بهلاك القوم المنذرين، أو بعدهم عما كانوا يقترفوا من الاثام، فأبراهيم عليه السلام أرسل لردع قومة عن عبادة الاوثان، وأرسل شعيب عليه السلام لمنع الغش الذي شاع في قومة، وارسل موسى وهارون عليهما السلام لينقذوا قومهما من ظلم فرعون وملئه، وارسل عيسى عليه السلام لهداية بني إسرائيل، فلم يستطيعوا تقبل فكرة أن يظل الانسان الكامل إنساناً ورفعهوه لمرتبة الالوهية.
وقد وصلت البشرية في القرن السادس الميلادي إلى درجة من الانحطاط أكبر من أن يقوم لإصلاحها المصلحون، كما ذكر ذلك الاستاذ أبو الحسن الندوي، فالجاهلية والوثنية قد تراكمت عبر القرون والاجيال، ودفنت تعاليم الانبياء والمرسلين، وكان المجتمع الذي نشأ فيه محمد صلى الله عليه وسلم، كغيرة من المجتمعات يعج بالظلم فالقوي يستعبد الضعيف، والغني يستبد بالفقير. والعبودية والرق قائم، والمجتمع تكثر فية المفاسد وتعم الرزائل، فالبغاء، والاستبضاع، والزنى، وخطف الفتيات والاعتداء على الاعراض كله شائع، لا ينكره أحد، ولا تحاربه جماعة، بالاضافة إلى وأد البنات، ولعب الميسر وشرب الخمر أمور تعد من المفاخر والتباهي.
ومع ذلك فقد نشأ عليه الصلاه والسلام بين قومة صادقا لا يعرف الكذب، وأميناً لا يعرف الخيانة، ووفياً لا يعرف الغدر، ويصف رسول الله فيما يرويه عن الله ـ تبارك وتعالى الحال التي وصلت إليها البشرية من التردي قبل بعثتة فيقول: [ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب] [1].
إختيار العناية الالهية للبشرية: ولما وصل واقع البشرية إلى هذا الحد كان لابد من وحي إلهي يغير هذا الواقع الأليم؛ فاختار الله أحب قلوب العباد إليه قلب محمد صلى الله عليه وسلم، اختاره لهذه المهمة العظيمة والرسالة الخطيرة، مهمة تحطيم كل الطواغيت، وإعادة الناس إلى قيمة البشر، وإصلاح عقائدهم وجميع أحوالهم، قال صلى الله عليه وسلم: [إني عند الله مكتوب بخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم بأول أمري: أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني أنه خرج منها نورٌ أضاءت لها منه قصور الشام] [2] فدعوة إبراهيم عليه السلام هي المذكورة هنا في هذه الآية {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [3] وبشرى عيسى هي قول المسيح عليه السلام تصريحاً باسمه: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [4]، وتكفل الله سبحانه وتعالى بالعناية به، وكانت الرعاية الالهية تحوطه في كل لحظة منذ مولده وحتى انتقل إلى الرفيق الأعلى.
إختاره الله من الامة الوسط بين الامم، فعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته الدعوية كلها يحطم هذه الطواغيت، في الواقع وفي حياة الناس وقلوبهم وعقولهم. ولقد أحدثت الدعوة الجديدة انقلابا فكريا وروحيا وعقديا واجتماعيا أشبه بالخوارق والمعجزات، وأعظم من نقل الجبال وتجفيف البحار، وما كان هذا ليتم لولا توفيق الله تعالى لرسوله ومعونته المطلقة له ولرسالته.
ولقد أخذ الله العهد على جميع الانبياء والمرسلين عليهم السلام، إن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ويتبعوه وينصروه، كما أخذ الله عليهم أيضاً أن يأخذوا هذا العهد على جميع أممهم قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} [5]، ولهذا فما من نبي من الانبياء إلا عنده علم بمبعثه وزمانه ومهاجره وعلاماته واوصافة، وقد تعددت البشارات التي جاء بها الأنبياء والرسل في الكتب السماوية السابقة بقدومه صلى الله عليه وسلم.
لماذا كانت جزيرة العرب: إختار الله جلت قدرته رسول الله من أمة وسط بين الامم، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [6]. واشرق نور النبوة من جزيرة العرب، اختارهم الله ليتلقوا الدعوة أولاً ثم يقوموا بمهمة نشرها في الافاق، لانهم كانوا شعب أقرب إلى البداوة التي لم تفسدها المدنية، والبساطة التي لم تغيرها الرفاهية، ولم تكن أمة متحضرة عرفت الفلسفة والمناقشات، وخبرت المعارف والعلوم، كالروم والفرس وأهل الهند، الذين كانوا يفخرون بعلومهم وبفلسفاتهم الواسعة، وكما يقول الاستاذ/ ابو الحسن الندوي: وبالتعبير العلمي المتأخر كانوا اصحاب “الجهل البسيط” الذي تسهل مداواته، بينما كانت الامم المتمدنة الراقية في هذا العصر مصابة ب “الجهل المركب” الذي تصعب مداواته وأزالته. ولو كانت الرسالة قد ظهرت في أمة متحضرة لكثر الجدال، وقيل إن هذا الرجل قد إقتبس من علوم الاقدمين، وخالط الفلاسفة فأخذ عنهم. وفوق كل ذلك فقد كان صلى الله عليه وسلم، أمياً لا يحسن القراءة والكتابة، كما إن جزيرة العرب كان بها الكعبة بيت الله الحرام بمكة المكرمة التي بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ليعبد الله فيها وحده.
إن هذا الدين المحمدي سينقذ البشر مما هم فيه من الحيرة، وينتشلهم من ظلمة المادة ويبصرهم بنور الايمان، ويوجههم إلى النور الإلهي، فيدركون به سعة رحمته التي وسعت كل شيء، وعظمة مجده الذي تسبح به السموات والأرض، وعزته التي تتضاءل أمامها الموجودات، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وليس للعالم بعده هاد مرشد، وكان دينه أكمل دين بنص الوحي القاطع، فلا بد من أن يمحو نوره نور غيره كما تمحو الشمس أضواء غيرها من الكواكب. هنا يمكنكم مشاهدة فيلم الرسالة وهو أشهر عمل سينمائي حكى قصة الاسلام.
وبكدة نكون وصلنا لنهاية حلقتنا النهاردة
في الحلقة القادمة والي هنتحدث فيها عن: اصول الاسلام فانتظرونا.
[1] رواه مسلم: كتاب الجنة، باب الصفات 4/2197، رقم الحديث: 2865 [2] أخرجه احمد في المسند (17424) عن العرباض بن سارية رضي الله عنه – صحيح لغيره المحدث شعيب الارناؤوط – تخريج صحيح ابن حبان
[3] سورة البقرة الاية: 129 [4] سورة الصف الاية: 6 [5] سورة ال عمران الاية: 81
[6] سورة البقرة الاية: 143
المراجع: التاريخ الإسلامي – السيرة للاستاذ محمود شاكر