رواد العمارة المصرية في القرن العشرين: رأينا في المقال السابق كيف كان لثورة 1919م. تأثير على الوعي القومي وإدراك أهمية العلم من أجل التطور والنهضة لذلك قامت الحكومة بإرسال عدد من البعثات للدراسة بالخارج في عدة مجالات، وبالطبع كان منها بعثات لبعض المعماريين من أجل الارتقاء بفن العمارة المصري كما يلي:
البعثة الأولى: تغير الاتجاه بعد الحرب العالمية الأولى وبعد ثورة 19، حيث قامت الحكومة بإيفاد المبعوثين للخارج في جميع فروع العلم وشمل ذلك العمارة فأرسلت البعثات إما إلى المدرسة الإنجليزية (جامعة العمارة بجامعة ليفربول والمعهد الملكي للمعماريين البريطانيين بلندن) أو المدرسة الفرنسية (مدرسة الفنون الجميلة بباريس). في الفترة بين 1920 – 1930 ومنهم:
الفوج الأول: وهم الذين توجهوا لمدرسة الفنون الجميلة بباريس وكان منهم:
- مصطفى باشا فهمي – أحمد شرمي – الاخوة حسن ومصطفى شافعي
- عبد المنعم هيكل. – أحمد صدقي
- أبو بكر خيرت الذي كان معماريا ومؤلف موسيقي مرموق في الوقت ذاته.
- وتتسم عمارتهم بالحفاظ على بعض الاشكال ورموز العمارة الإسلامية مع الحفاظ على أسس العمارة الكلاسيكية.
الفوج الثاني: توجهوا لمعاهد معمارية بريطانية:
- علي لبيب جبر – محمود شريف نعمان
- محمود رياض – محمود رأفت
- محمود الحكيم
- وكان توجههم نحو عمارة الحداثة بتحفظ، وكان أسلوبهم يتوافق بدرجات مختلفة حسب ذوق كل معماري مع مناهج العمارة الحديثة والتي بدأت تسود في بداية العشرينات في أوروبا، ولا يوجد تمرد على عمارة الحداثة إلا ما كان من المعماري محمود الحكيم عند تصميمة لمتحف الاثار في الاقصر.
- الفوج الثالث: فكانت للمدرسة السويسرية: وأهم الذين درسوا بها المعماري سيد كريم: ويعتبر أهم رواد الحداثة في مصر منذ نهاية الثلاثينيات وقد تأثر بفكر لوكوربوزية في علاقة القومية بالعالمية.
- كما ظهر في هذه الفترة معماريون أجانب مثل شارل عيروط اللبناني الأصل الذي تأثر بالمدرسة الهولندية في استعمال الطوب الظاهر بألوانه الأصفر والأحمر وانطوان النحاس اللبناني الأصل الذي كانت تصميماته انعكاس لفكر المدرسة الفرنسية في باريس.
- رواد العمارة المصرية في القرن العشرين، وتوجهات العمارة المصرية في بداية القرن العشرين: عندما عاد هؤلاء الرواد المعماريين المصريين في الثلاثينيات بدأوا عهداً جديداً من العمارة المصرية، وتولوا مقاليد السيطرة في هذا المجال، ولقد تحركوا في اتجاهين متوازيين لرسم مسار التغيير الاجتماعي والثقافي للمجتمع المصري وظهر إتجاهين رئيسيين هما:
الاتجاه الأول: الاتجاه نحو تأصيل العمارة من مفهوم تقليدي نقلي: وذلك بتطوير الموروث للوصول إلى المعاصرة، وبدا ذلك على أيدي رواد العمارة المصريين من أمثال:
المعماري مصطفي فهمي باشا، وتعمق هذا الاتجاه فيما بعد على يدي قطبي العمارة التقليدية في مصر المعماري حسن فتحي والمعماري رمسيس ويصا واصف
الاتجاه الثاني: الاتجاه نحو تحديث الرؤى المعمارية في إطار تفاعله مع روافد العمارة الغربية: حيث كان لرحلات المعماريين المصريين لإنجلترا وفرنسا وسويسرا، تأثيره المباشر على العمارة المصرية في الربع الأول من القرن العشرين، فحينما عاد معظم هؤلاء الرواد حملوا رؤاهم وتطلعاتهم لتحديث الحركة المعمارية في مصر من خلال ما تعلموه، وكانت ابداعات هؤلاء المعماريين نقطة تحول للعمارة المصرية المعاصرة، ومن هؤلاء الرواد:
علي لبيب جبر، ومحمود رياض، ومحمد رأفت، ومحمد شريف نعمان، ومحمود الحكيم، من الذين أكملوا دراستهم في بريطانيا.
وعاصرهم كلاً من: حسن ومصطفى شافعي، وأحمد شرمي، وأحمد صدقي وأخرين من الذين أكملوا دراستهم في مدرسة الفنون الجميلة بفرنسا، والمعماري الفذ الدكتور سيد كريم الذي درس في سويسرا.
وقد تحدثنا في مقالات سابقة عن بعض رواد العمارة المحلية، وبإذن الله سنلقي الضوء على مجموعة أخرى من رواد العمارة المحلية والعالمية في مقالات قادمة للتعرف على توجهاتهم الفكرية المعمارية المتعلقة بلغة التصميم من خلال نتاجهم الفكري والمعماري.
وهكذا شهدت مصر على مدى 4 عقود في الفترة بين الحرب العالمية الأولى، ونهاية الحرب العالمية الثانية، طرح جاد لقضية الهوية الثقافية للعمارة في مصر، وظهرت في مصر بعض التوجهات الجديدة انطلاقا من روح الوطنية في ظل البحث عن طرز معمارية و طابع محلي وطني وخاصة في المباني الرسمية.
الطرز المعمارية التي استخدمت في تلك الفترة: ظهر في مصر ثلاث طرز معمارية مختلفة وهي: الطراز المصري القديم (الفرعوني)، والطراز الاسلامي، والثالث هو مزيج من طرز معمارية مختلفة إكتسبتة مصر من ثمرات الاحتكاك بالحضارة الغربية.
- اولاً: الطراز الفرعوني المستحدث (Neo Pharaonic Style) بعد ثورة 1919م وفي أعقاب إنهيار الخلافة العثمانية عام 1922م تبنى تيار القومية في مصر معايير العودة الى الجذور فبرز التراث المعماري المصري القديم كإطار معماري يعبر عن التوجه الجديد كرد فعل معاكس للهيمنة الأوروبية وبعيداً عن القالب الإسلامي، من خلال توظيف عناصر تشكيلية مثل البوابات والاعمدة المستوحاة من “الفرعونية” وظهر ذلك في بعض الاعمال مثل محطة سكك حديد مصر في الأقصر والجيزة وسراي القبة، وضريح سعد زغلول في القاهرة:
ضريح سعد زغلول عام 1927 للمعماري مصطفى فهمي باشا: حيث نلاحظ استخدامه للمفردات والعناصر المعمارية الفرعونية مثل: الاعمدة الفرعونية الضخمة، والكورنيش الضخم الذي يتوج المبنى، بالإضافة للفتحات الرأسية الرشيقة التي تتوسط الكتلة الحجرية.
- ثانياً: الطراز الاسلامي المستحدث (Neo Islamic Style): وقد شهدت مدينة القاهرة في نهايات القرن 19 ومطلع القرن العشرين طفرة معمارية هائلة حيث تغير نظام العمارة فيها من مبان مشيدة على الطراز الاسلامي والعثماني إلى منشأت تجمع بين طرز مختلفة وافدة، وكان لمحمد على هو وأسرته من بعده دور بارز في تحول سير العمارة في مصر بهذا الشكل، من خلال الاعمال التي تعد محاولة لتطبيق النظام المعماري الاوروبي، ولكن علي الرغم من سيطرة الطرز الاوروبية في هذه الفترة وذلك نتيجة انفراد المعماريين الاجانب بالساحة المعمارية في مصر، إلا أن ذلك لم يمنع من ظهور طائفة من المعماريين الاجانب الذين عشقوا الفن الاسلامي واتجهوا إلي تطبيق العناصر المعمارية والزخرفة الاسلامية في منشأتهم المعمارية، هذا ما أدي بدوره إلي محاولات إحياء الطراز الاسلامي في الفترة ما بين الربع الاخير من القرن 19 وأوائل القرن العشرين، فظهرت لدينا أمثلة كثيرة للطراز الاسلامي الجديد الذي أطلق عليه الطراز الاسلامي المستحدث.ومن أمثلة هذا الاتجاه:
- قاعة الاحتفالات الكبرى – جامعة القاهرة: أحد الأبنية المعمارية ذات الطراز الفريد، الذي يجمع بين الأصالة والحداثة، والتصميم يحمل طابع الطراز العربي الحديث، قام بتصميمها المعماري أحمد شرمي، ويتميز المشروع بالقبة الحديدية المغطاة بالنحاس ويكسوها اللون الأخضر من الخارج، والتي يصل قطرها لـ 46 مترا وارتفاعها لـ 75 مترا من سطح الأرض وتنتهي القبة بمجموعة من النوافذ في جميع الاتجاهات لتمد القاعة بالضوء الطبيعي.
2. معهد الموسيقى العربية: قام الملك فؤاد الأول بافتتاح المعهد عام 1923م، وأطلق عليه إسم (المعهد الملكي للموسيقى العربية)، والمبنى من تصميم المعماري فرج أمين وشاركه معماريين أجانب وهم أرنستو فيروتشي، وبول كونين باستير، وقد صمّم المبنى على الطراز المملوكي المستحدث. يمكننا أن نلاحظ الهلال والثلاث نجوم أعلى القبة، وهو رمز المملكة المصرية. واستخدم المعماري المفردات والعناصر المعمارية الإسلامية الممثلة في العقد المدبب الضخم الذي أكد به على المدخل الرئيسي للمبنى، والمشربيات الخشبية في واجهة المبنى، بالإضافة للقبة الضخمة ذات الزخارف الإسلامية.
3. مبنى جمعية المهندسين المصريين: للمعماري مصطفى فهمي باشا. بشارع رمسيس في مدينة القاهرة تم اقامته عام 1930 ويتكون المبنى من بدروم وطابقين، وتم البناء على مراحل ويضم المبنى قاعة متعددة الاغراض ومكتبة بالاضافة للمكاتب الادارية ويتميز المبنى بالحفاظ على الهوية الاسلامية.
مبنى مشيخة الازهر: المكتب العربي للتصميمات 1990م
ثالثا: الطرز المعمارية التي إكتسبتها مصر من ثمرات الاحتكاك بالحضارة الغربية ومنها: الطرز المختلفة التي أشرنا إليه في مقالة الاتجاهات المعمارية في مصر قبل ثورة 1919، بالاضافة للطراز الحديث المتأثر بتطورات عمارة القرن العشرين في أوروبا.
الطراز الحديث (Pre- Modernism Style) ظهر هذا الاتجاه من خلال التحول التدريجي نحو العمارة الحديثة والتخلص من سيطرة التراث المصري والانفتاح على العالم الخارجي ومواكبة روح العصر والتكنولوجيا والتطور، وتبنى هذا الفكر معظم المعماريين العائدين من الخارج، حيث قاموا بتطبيق ما درسوه من مبادئ العمارة الحديثة في أوروبا من حيث البساطة والوظيفة والكتل الصريحة البسيطة والخطوط الافقية الممتدة والمسطحات الخرسانية والزجاجية والبعد عن الزخارف، ومن أمثلة هذا الاتجاه:
مبنى دار أخبار اليوم من تصميم المعماري سيد كريم عام 1948م، حيث يتضح سمات وملامح عماره الحداثة من خلال الخطوط الافقية الصريحة والتكرار، والبساطة في استخدام المفردات المعمارية والفتحات الزجاجية المستقيمة.
هكذا رأينا كيف تأثرت أنماط العمارة بالحالة السياسية في العهد الملكي الأكثر ليبرالية حيث تنوعت أشكال العمارة بين التأثر بالعمارة العالمية والأوروبية تحديدا ومحاولة محاكاتها، مع محاولة إيجاد نموذج حداثي ذي خصوصية مصرية يستفيد من العالم ولا يقلده، أو العودة إلى طابع بناء مصري قديم واستلهامه، مثل الطراز الفرعوني أو القبطي، والطراز الإسلامي، ولقد عاصر جيل المعماريين الرواد جيل كامل من المعماريين المبدعين الأجانب الذين سجلوا بصماتهم الإبداعية في مصر، فاستفادوا من خبراتهم، ثم وضعوا بصماتهم المعمارية بعد ذلك، ولذلك إتسم هذا الجيل من المعماريين المصريين الرواد بالوعي الثقافي والفكري والمهني والمعماري، وأثبتوا جدارتهم وإبداعاتهم المعمارية رغم الظروف التي كانت تمر بها البلاد من صراعات داخلية وخارجية، وهيمنة المستعمر البريطاني وأثبتوا أن المعماري المصري لا يقل في إبداعه عن المعماري الأجنبي.
وسنتحدث في المقال القادم بإذن الله عن: أثر ثورة يوليو على العمارة في مصر والتحول نحو مفاهيم عمارة الحداثة وما بعد الحداثة.
- المراجع
- أثر الثورات المجتمعية على تطور الفكر المعماري م. أيمان سامي عبد العليم عمارة
- إطلالة على المعماريين المصريين الرواد” من تأليف الدكتورة شيماء عاشور.
- الموسوعة الحرة (ويكيبيديا).