عمارة ما بعد الحداثة: ناقشنا في الجزء الاول من هذا الموضوع كيف كانت مهمة الجيل الأول كبيرة وعظيمة حيث قاموا بمسح شامل للإمكانيات التكنولوجية الحديثة لمحاولة تخليص العمارة من قبضة التفكير في الماضي وفي العمارة الكلاسيكية كمحاولة منهم لتطوير العمارة بحيث تتناسب مع القرن العشرين إلا أن أعمالهم كانت تتسم بالفردية حيث فرضت اتجاهات ونظريات مختلفة.
وجاء الجيل الثاني من المعماريين محاولاً تقديم فكر جديد إلا أن تأثير الجيل الأول من الرواد كان كبيراً ومع ذلك كان هناك بعض من معماري الجيل الثاني استطاع أن يتخلص من فكر وسيطرة الجيل الأول ليخلقوا لأنفسهم اتجاها مخالفاً قائم بذاتة من أمثال لويس كان وظهرت عدة أفكار جديدة ومتطورة مع ظهور الجيل الثالث.
مدرسة المستقبل Futurism:
ظهرت مع نهاية فترة العمارة الحديثة في النصف الثاني من القرن العشرين علي يد: مجموعة الاركيجرام Archigram ومجموعة الميتابوليزم Metabolism وظهرت أفكار المباني العملاقة Mega structure وفكرة المجموعة الفضائية Spatial Setting ونظرية الطرح والإضافة والإحلال والوحدات الكبسولية Capsule Units وكانت هذه الأفكار هي الأساسيات التي ولدت عدة أفكار فيما بعد، وسنعرض فيما يأتي أعمال بعض الأساليب والمجموعات المعمارية والمعماريين الذين يمثلون اتجاهات عمارة المستقبل:
أعمال مجموعة أركيجرام Archigram
تشكلت مجموعة أركيجرام الإنجليزية عام 1960 وضمت ستة أعضاء من المعماريين الشباب من أمثال بيتر كوك ورون هيرون ولقد حملت مشاريع المجموعة أفكارا ارتبطت بالتكنولوجيا العالية المتطورة للمعماري فولر الذي عدة الناقد راينر بنهام احد رواد عمارة المستقبل فاقتربت تصاميمهم من الخيال العلمي أو عصر الفضاء وكانت توجهاتهم تهدف إلي جعل التكنولوجيا الهدف الرئيسي في البقاء ولم تأخذ المجموعة في توجهاتها العلاقة بين الكائنات الحية وبيئتها ومن بين أهم المشاريع للمجموعة مشروع المدينة المركبة Plug – in City للمعماري بيتر كوك.
وتجدر الإشارة إلي أن أفكار هذه المجموعة تبنتها مجموعة الميتابوليزم في اليابان وبالرغم من كون هذا الاتجاه غير اقتصادي فأنة يعد من المحاولات المؤثرة لتطوير التحديث في مجال العمارة والتخطيط الحضري.
ومن بين أهم المشاريع لمجموعة أركيجرام مشروع المدينة المتحركة Walking City للمعماري هيرون عام 1964
الأسلوب الياباني الجديد New Japan Style
هذا المصطلح أطلق من قبل الناقد روبين بويد Robin Boyd علي مجموعة الأعمال التي ظهرت في الستينات في اليابان من قبل مجموعة المعماريين الذين تدربوا تحت قيادة المعماري الفرنسي الشهير (لوكوربوزية) من أمثال كونيو مايكاوا وكيشو كوروكاوا حيث طوعوا أسلوب لوكوربوزية مستخدمين التقنيات الحديثة والتقاليد اليابانية فتميزت أعمالهم باستخدامات جديدة لأشكال يابانية تقليدية قومية من خلال إظهار جماليات التوازن اللاتناظري إلي جانب إظهار المواد بتأثيراتها البروتالية الخشنة ومن رواد هذا الأسلوب:
المعماري كينزو تانك Kenzo Tango – 1913
رائد العمارة اليابانية المعاصرة يؤمن بالتناسق والانسجام بين الشكل المعماري والوظيفة المحددة له ويري أن ” العمارة توحد الوظيفة والشكل والتعبير. إن الوحدة العضوية لهذه الجوانب الأساسية وتطابقها هي الإبداع المعماري الذي نطمح في التوصل إلية”
ولد كينزو تانج في مدينة صغيرة في جزيرة شيكوكي في العام 1935 درس الهندسة المعمارية في جامعة طوكيو وعمل في استوديوهات المعمار كونيو مايكاوا متأثرا بدورة بأعمال لوكوربوزية وفي عام 1946 عمل أستاذ مساعد في نفس الجامعة, عمل أستاذ زائر بمعهد مانشستر للتكنولوجيا ومحاضر بهارفارد جامعة واشنطن وغيرها وفي عام 1949 فاز بمسابقة مركز السلام بهيروشيما, المدينة التي دمرتها الحرب بالكامل مما فتح مجالاً واسعا وسلط الأضواء العالمية علي أفكار تانج بعد عرض المشروع علي مجموعة (CIAM) الدولية عام 1951.
وتميزت أعمالة بأنة جمع بين الطريقة اليابانية للتفكير والفكر العقلاني الفرنسي المرتبط بهيكل الخرسانة المسلحة مما اكسب عمارتة أسلوبا دوليا ذات تأثير عالمي ويظهر ذلك في مجموعة تصاميمه مركز اتصالات يامنش كونجو باليابان 1967 و مبني مركز فوجي بطوكيو – FBC
الملعب الاولمبي بطوكيو 1964:
اتجهت أعمال تانج إلي خلق تصورات ديناميكية شملت تصاميم المباني العامة والمشاريع التخطيطية حملت معها رمزية عالية مما جعله يعيد صياغة مفهوم الوظيفة مشيراً إلي أن ” الجمال وحدة يخلق الوظيفة” وظهر هذا التوجه في الصياغة الشكلية لمبني قاعة الملعب الاولمبي بطوكيو عام وقد حمل التكوين الشكلي لهذا المبني مفردات من العمارة التقليدية اليابانية والتي ظهرت في شكل السقوف بخطوطها المنحنية الديناميكية المعلق بواسطة سارية خرسانية ضخمة بأسلوب عكس تعبيرية مذهلة جمعت ما بين الشكل والوظيفة ويعد من أهم أعمالة التي عكست العمارة الحديثة في اليابان في القرن العشرين.
حركة الميتابوليزم Metabolism في الستينات ظهرت حركة جديدة في اليابان قادها معماريون شباب من تلاميذ كنزو تانج حيث درسوا حركة الرواد في أوروبا وحاولوا ابتكار مذهب عملي يمكن أن ينافس المذاهب الغربية وفي عام 1959 كان كنزو تانج يمثل اليابان في المؤتمر العام لمجموعة سيام (Ciam) وكان تانج آنذاك من أشهر المعماريين اليابانيين ولما رجع بعد حضور هذا المؤتمر أعلن أن مجموعة سيام في طريقها للانتهاء بظهور الأفكار الجديدة التي انبعثت من خلال المؤتمر العاشر وظهور الفريق العاشر (Team-X) وأعلن كذلك أن فكر المجموعة العاشرة هو الفكر المسيطر على المؤتمر. وفي نهاية عام 1959 كان هناك ثلاثة من المهندسين الشباب وهم كيكيوتيك(Kikutake) وكيروكاوا (Kurokawa) وكاوزو (Kawazoe) يجتمعون دورياً في اجتماعات هامة ، توصلوا من خلالها لوضع كلمة تصلح لأن تطلق على فكرهم واتجاهاتهم المعمارية الجديدة فكان اختيارهم لكلمة 🙁 الميتابولزم Metabolism) وقد عرفها كيكيوتيك بأنها تمثل “الشئ الذي لا يتغير عندما يحصل التغيير” أما بالنسبة لكاوزو فهي فكرة التجديد التي تظهر في الكائنات الحية.
الوحدات الكبسولية و المنشآت العملاقة في نظرية الميتابولزم :-
اعتمدت عمارة الميتابولزم (Metabolism) على الإمكانيات الإنشائية لحل المشاكل العمرانية اليابانية ، وقد قاد هذا الاتجاه كنزو تانج وتلاميذه بمشروعه المشهور لمدينة طوكيو 1960 ومشروعات أخرى منها أعمال كيكيوتيك وكيروكاوا وأراتا إسوازاكي (Arta Isozaki) للمدينة المعلقة (City In the Sky) 1962
وقد أتاحت التكنولوجيا الجديدة وإيمانهم بها طريقا للحلول العمرانية والتي ميزوا فيها بين العناصر الإنشائية قصيرة الأمد أو المتغيرة (Interchangeable) وهي الوحدات الكبسولية و العناصر الإنشائية طويلة الأمد والدائم وهو الإنشاء العملاق وقد كان يقينهم أن التكنولوجيا هي التي تعطي الحل لكل المشاكل العمرانية.
الوحدات الكبسولية:Capsule units
هي وحدات موديولية متوافقة يتم تجميعها في مصنع ثم رفعها برافعه وتثبيتها في الإنشاء الرئيسي معدل أبعاد الكبسولة (4×2.5 متر) يشكل الفراش مع التلفزيون والتليفون والحمام وحدة كاملة The capsule interior was pre-assembled in a factory then hoisted by crane and fastened to the concrete core shaft.ومن الغريب أن هذا الاتجاه كان تطوراً مضاداً لأفكار مجموعة سيام (Ciam) الدولية للتقسيم العمراني للانتفاعات المختلفة ولتأكيدهم على التصنيع والإنشاء كانت المشروعات المنفذة قليلة وغير مرنة . وقد قسم مهندسي مجموعة الميتابولزم فراغات المسكن إلى :-
– فراغات معيشية (Living Spaces) – وحدات الخدمة (Servant Parts)
وفي كلتا الحالتين يجب أن تحمل تلك الوحدات الفراغية بداخل منشأ عملاقMega structure حتى يمكن تعليق (Clip – on) بهذه الوحدات أو انزلاقها (Plug – in) مثل الأدراج في مكتب أو أي قطعة أثاث .
استطاعت مجموعة الميتابولزم أن تخرج بمعظم أفكارها إلي حيز التطبيق وقد يكون السبب في ذلك هو تشجيع حكومة اليابان ومساعدتها لتلك الأفكار بسبب تقبل العقلية اليابانية لمثل هذه المشروعات التي تعتمد أساسا علي التكنولوجيا المتقدمة ومن هذه الأفكار الوحدات الكبسولية وهي ليست خاصة بالفراغات المعيشية فقط بل يمكن أن ينزلق داخلها وحدات الخدمات مثل المطابخ والحمامات والتي يمكن أن تستبدل بوحدات أخري عند الحاجة إلي تغييرها أو بانتهاء عمرها الافتراضي.
المباني العملاقة (Mega structure) :-
يري رال ولكاكسن (Ral Wilcaxon ) من جامعة بركلي كلية البيئة أن المنشأ العملاق ليس المبنى الضخم فقط ولكنه المبنى الذي يتوافر فيه الشروط التالية :-
– مبني من وحدات موديولية× (Constructed of Modular Units)
– له مقدرة امتداد كبيرة أو غير محدودة× (Capable of great or even unlimited extension) .
– منشأ من إطار هيكل ضخم× يمكن أن يحتوي بداخله وحدات صغيرة إنشائية قد تكون في حجم الحجرات أو الوحدات السكنية أو حتى مباني صغيرة إضافة إلى العناصر الأخرى والخدمات ويمكن لتلك الوحدات أن تنزلق داخل هذا المنشأ (Plug in) أو تعلق عليه (Clip on ) بعد القيام بسبق تجهيزها في مكان آخر .
لابد للمنشأ الضخم الذي يحتوي على كل العناصر المعيشية أن يكون عمره الافتراضي أكبر من العمر الافتراضي لجميع العناصر التي يحتويها بداخله.
في ابريل 2002 اختير الاقتراح المقدم من كيروكاوي ليفوز في المسابقة الدولية لتصميم مدينة تكنولوجيا علي مساحة 123,000 متر مربع بسنغافورة كنموذج لمجموعة مباني عملاقة Mega structure
كيشو كيروكاوي Kisho Kerlkawa(1934-
ولد كيروكاوي في اليابان سنة 1934 حصل علي الماجستير والدكتوراة في العمارة عام 1964 ويعتبر رائدً في استخدام الكابسولة Capsule units في البداية قام باستخدام وحدات كبسولية من الخرسانة ثم استخدم بدلا منها هياكل من الحديد الملحوم welded steel frame والتي أثبتت بعد ذلك أنها أكثر اقتصادية ومرونة وفي عام 1972 قام بعمل برج ناكاجين السكني Nakagin Capsule كنموذج أو جزء من مجموعة مباني عملاقة Mega structure كما ظهرت قدرة كيروكاوي في استخدام الفكر التكنولوجي في التشكيل النحتي في أسلوب التداخل بين الأشكال المتنوعة في برج سوني (Sony) في اوساكا فقد ظهر البرج المكون من عشرة طوابق بحجم اكبر مما هو علية بسبب الأسلوب الذي أتبعة في إنهاء المبني بغطاء ساتر اخفي به قسم من الخدمات الميكانيكية بأسلوب مرن بتركيب عضوي نحتي ملتحما مع برج المصاعد.
وحصل علي عدة جوائز عن أعمالة كما قام بعمل عدة معارض إضافة إلي اشتراكه في معارض مجموعة الميتابولزم
الخلاصـــــة:
- يعتبر القرن العشرين هو قمة التطور والتحول في المفاهيم والذي بدأ منذ أواخر القرن ال 19 بعد سيطرة العلوم التجريبية على معظم نواحي الحياة، كما صبغت الحياة بصبغة مادية قادت إلى كثير من العلوم والاكتشافات وقد تأثرت بها العمارة بشكل كبير.
- نتيجة للثورة العلمية التي بدأت منذ عصر النهضة وبلغت ذروتها في القرن العشرين، تغير الفكر المعماري متأثراً بالتغير في المفاهيم والتصورات التي صحبت النظرة المادية، كما تشكلت رؤية جديدة من خلال أراء معماريين مثل لوكوربوزية ورايت وغيرهم من المعماريين.
- ادى التحول من عصر التصنيع التكنولوجي إلى عصر المعلومات الاليكتروني والوسائط المتعددة في النصف الثاني من القرن العشرين، بالاضافة إلى الاكتشافات التي بلغت مئات الاضعاف مما اكتشف في القرون السابقة مجتمعة إلى ظهور العديد من مواد البناء التي لم تكن موجودة من قبل، كما ظهر العديد من تكنولوجيا البناء والتي أثرت على الناتج المعماري.
- طوع العديد من المعماريين قدرات التكنولوجيا في صناعة عمارة العصر الحديث، فتم تطوير الهايتاك الي ايبرتيك، واورجانيتيك، وجرين تيك، وظهرت العمارة المتأقلمة والعمارة المتحركة واصبحت العمارة الذكية ضرورة العصر، وحلم كل مصمم ومبدع،
- ساهم انتقال الأفكار المعمارية عبر القارات من خلال المجلات والكتب المعمارية، وظهور العديد من الحركات المحلية التي ارتبطت بالتراث المحلي، كما توجه العديد من المعماريين نحو الطبيعة كمصدر إبداعي، كل ذلك ساهم بشكل كبير في تكوين عمارة ما بعد الحداثة.
المراجع:
تطور الفكر المعماري في القرن العشرين د. محمد محمود عويضة
الأسلوب العالمي في العمارة بين المحافظة والتجديد شيرين إحسان شيرزاد
ميتافيزيقا العمارة في القرن العشرين د. حسام الدين بهجت النبوي.
بقلم : مهندس معماري اشرف رشاد عبد الفتاح – المقال الأصلي نشر بمجلة المجلس العدد الرابع- السنة الرابعة- ابريل 2007