- لوكوربوزييه رائد العمارة الوظيفية Le Corbusier: فرنسي سويسري الأصل (1887-1965) كان أبوة وامة يعملان في حفر وزخرفة ميناء وأغلفة الساعات، ومنهما عشق فن الرسم والحفر، بعد أن تخرج من مدرسة الفنون الجميلة، وفي عام 1905 قام بأول رحلة زار فيها إيطاليا والمجر والنمسا وفي فينا تعرف على المهندس المعماري Joseph Hoffman ومكث يتمرن في مكتبه حوالي 6 شهور، مكنته من تفهم الاشكال والاساليب المعمارية السائدة في ذلك الوقت والتي كان معظمها خاضع لمنهج Art Nouveau ولم يكن يرتاح إليه كثيراً، وفي عام 1907 سافر لمدينة ليون بفرنسا وعمل مع المعماري Tony Garnier وكان يقوم بتصميم مشروع مدينة صناعية في ذلك الوقت، وأعجب لوكوربوزيية ببساطة تصميم العمارات السكنية وخلوها تماماً من أي زخارف بالواجهات، وفي عام 1908 رحل إلى باريس وعمل مع المهندس الشهير Auguest Perret لمدة 15 شهر واستفاد من عمله معه استفادة كبيرة لجرأته في استخدام الخرسانة المسلحة في اقامة العمارات السكنية، ثم سافر إلى برلين عام 1910 والتحق بمكتب المهندس Peter Behrens ومكث معه حوالي 5 شهور حيث التقى هناك بكلاً من: والتر غروبيوس، وميز فان دوره، وتدارس الثلاثة مع استاذهم “بهرنز” في كل ما يمكن عمله للاستفادة من الالة في مجال الانشاءات والتعبير عن ذلك في عمارة جديدة خالية من رموز العمارة الكلاسيكية، وفي عام 1911 قام برحلة جديدة زار فيها ايطاليا واليونان وتركيا، وكان لنشاءة لوكوربوزيه أثر كبير في منهج تفكيره والاسلوب الذي اتبعه في مبانيه، وكان يقول:
إذا كانت الالة تعتبر ناجحة عندما تؤدي وظيفتها بإتقان، فإن المبنى يعتبر ناجحاً وسليماً وجميلاً أيضاً، إذا أدى وظيفته على الوجه الاكمل The House is a machine to live in “لوكوربوزيية”.
- وكانت المقوله سبب في الهجوم عليه من الكثيرين الذين وجدوا مبانيه جرداء خالية من الدفء عارية من أي زخارف مما تعودوا عليه في العمارة الكلاسيكية، وفي عام 1923 أصدر كتاباً بعنوان “نحو عمارة” جمع فيه كل ما سبق له نشره من مقالات تعبر عن تصوره لعمارة المستقبل، وكانت بعنوان “الروح الجديدة” وأحدث هذا الكتاب صدى كبير لدى المعماريين في أوروبا، لانه بعد الحرب العالمية الاولى لم يكن لوكوربوزية قد نجح في تنفيذ شئ ذو قيمة يعبر عن فكرة وفلسفته بشكل واقعي.
النظرية الوظيفية “” Functionalism Theory تقول بأن العمارة هي علم خالص و ليست فن، و ان الشكل المعماري يتقيد و يتبع الوظيفة، ويعتبر لوكوربوزييه أبرز من طبق هذه النظرية في كُل مبانيه، وأحد أهم المطورين والداعمين للنظرية الوظيفية في كل مبادئها، لذلك تقترن هذة النظرية بأسم لوكوربوزييه ولكنها ليست خاصه به وحده.
أهم مبادئ العمارة الوظيفية:
- التركيز على وظيفة ومتانة المبنى.
- التركيز على اظهار الهيكل الانشائي للمبنى.
- جمال الشكل الخارجي للمبنى هو تحصيل حاصل للوظيفة والمتانة.
- التركيز على مفهوم الفراغ المعماري كالمساحه المفتوحه.
- تبسيط الاشكال بالعودة والنظر الى أصلها الأولي.
- ثم اخذ لوكوربوزييه مبادئ أوجست بيرية الذي تزعم أسلوب البناء بالخرسانة المسلحة والتي اظهر بها جراءة كبيرة في معالجاته المعمارية كنقطة بداية وانطلق منها لتحقيق أهدافه، كما أنه أضاف مفهوم النسبة المعيارية من أجل الحفاظ على مقياس إنساني في عمله، ووضع مبادئ خمسة للعمارة الحديثة، وفي عام 1927 تمكن لو كوربوزييه من بناء نماذج عمارات الشقق السكنية لأول مرة في معرض فاسينهوف بشتوتغارت، نقاط لو كوربوزييه الخمسة في العمارة وأصول تصميم المسكن الحديث:
- رفع المباني عن الأرض بأعمدة Pilotis: لإعطاء الاستمرارية للفراغات العامة، حتى يمكن استغلالها لامتداد الحدائق واستمرار الفضاء الخارجي وعدم قطعة بالبناء، وجعل استخدام الطابق الارض لمواقف السيارات والمدخل الرئيسي للمنزل، وبعض الخدمات الاخرى قليلة الاهمية..
- الشبابيك الأفقية الطويلة المنزلقة أفقيا: لإعطاء استمرارية بين الداخل والخارج عن طريق استعمال الشبابيك المستمرة من العمود للعمود بدلاً من الشبابيك الصغيرة.
- التصميم الحر للواجهات: باستخدام النظام الهيكلي من الخرسانة المسلحة، والاستغناء عن نظام الحوائط الحاملة، الامر الذي حقق له قدراً كبيراً من الحرية والمرونة في تصميم الواجهات.
- المسقط الحر Plan Libre: نتيجة استخدام نظام الهيكل الخرساني في الإنشاء ونقل الأحمال عن طريق الأعمدة فأصبحت وظيفة الحوائط مجرد فصل فراغات فأعطي حرية أكثر في التصميم.
- استخدام سطح المنزل كحديقة علوية: Roof Garden، يستعيض بها عن الحديقة الارضية، مما يتيح لقاطنى البيت المنظر الطبيعي في الاعلى والاعتناء به، وتوفير الخصوصية في استخدامها.
أهم أعمال لوكوربوزييه رائد العمارة الوظيفية : قام لو كوربوزييه بتطبيق تلك المبادئ في العديد من المساكن التي صممها في نهاية العشرينات، مثل فيلا شتاين في غارش عام 1927، فيلا بيزوه في قرطاج بتونس عام 1928، كذلك في الفيلا الشهيرة:
فيلا سافوي بفرنسا: تم بناؤها بين عامي 1928 و1931 صمم لو كوربوزييه المشروع بالاشتراك مع ابن عمه بيير جانرى، باستخدام الخرسانة المسلحة، حيث تتناول فكراً معاصراً للمنزل الريفي الفرنسي، وتبلغ المساحة البنائية بحدود 700 متر مربع (تقدر ابعاد المبنى بـ 19× 21.5م)، وجاء الشكل العام للفيلا على هيئة مكعب أبيض، مرفوع عن الأرض بواسطة أعمدة دائرية تحمل القسم السكني الرئيسي بالطابق الاول، واستخدم لوكوربوزيه الخطوط الأفقية والمعالجات البسيطة والمنطقية للواجهات بجعل نوافذ الشرفة المفتوحة في الطابق الأول شريطية، وجعل مساحة الطابق الأرضي لموقف السيارات وغرف مساعدة، وفضاءات مخصصة للحارس وأخرى للورش.
وتمثل الفيلا نموذج على تطبيق مبادئ لوكوربوزيية الخمس، وهي واحدة من أكثر الأمثلة شهرة على الطراز الدولي. استمر سافوي في العيش في المنزل حتى عام 1940، وغادر خلال الحرب العالمية الثانية، وتم حيث تم احتلالها مرتين خلال الحرب: الأولى من قبل الألمان وتم استخدامها كمخزن للتبن، ثم من قبل الأمريكيين، أُضيفت الفيلا إلى السجل الفرنسي للآثار التاريخية في عام 1965، لتصبح أول مبنى حديث في فرنسا يتم تعيينه كنصب تاريخي، وأيضًا أول مبنى يتم ترميمه بينما كان المهندس المعماري لا يزال على قيد الحياة.
فكرة المجمعات السكنية المتكاملة: بدأ ”لوكوربوزييه“ هذا الفكر عام 1944م، وتعتبر عمارة مرسيليا أول عمل حقيقي، حيث قام بتجميع المساكن في مبنى واحد، وترك الأرض من حوله حدائق مفتوحة، تطبيقاً لفكرة تخطيط المدينة الحدائقية التي اقترحها عام 1922م، وتعتمد الفكرة على تفريغ قلب المجمع السكني ووضع الخدمات اللازمة فيه .. ونرى أن في هذا محاولة لنقل الطبيعة إلى داخل المبنى وليس الفراغ الخارجي فقط، وقد ساهمت هذه الفكرة في نشوء مفهوم المجاورة السكنية فيما بعد كما أنشئت مجمعات سكنية كبيرة على غرار ذلك المجمع ..
المجمع السكني بمرسيليا (1946 – 1952م) Unite D’habitaion, Marseille
بعد خروج فرنسا من الحرب العالمية الثانية إحتاجت إلى إعادة الاعمار، وإنشاء سكن اجتماعي سريع، بعد أن أصبح الآلاف من الناس في جميع أنحاء أوروبا بلا مأوى، وطلبت الدولة الفرنسية من لو كوربوزييه بناء وحدة سكنية في مرسيليا وأن يظهر فن جديد للبناء يغير طريقة العيش، وجاءت فكرة لو كوربوزييه مرنة للغاية، حيث فكر في أن يختزل مخطط المدينة المشعة في منزل واحد، ببناء مبنى سكني يضم 337 شقة، مفصولة بالشوارع الداخلية، يبلغ طول المبنى 137 مترا وارتفاعه 56 مترا وعرضه 24 مترا .. وهو واحد من خمس وحدات سكنية بناها لو كوربوزييه خلال مسيرته المهنية. ويحتوي المجمع على 23 نوعاً مختلفاً من الوحدات السكنية تبدأ بغرفة للعزاب وحتى شقة لسكنى 8 أفراد .. يحتوي الطابقين السابع والثامن على الخدمات الضرورية مثل محلات البقالة ومغسلة وخدمات تنظيف ومصفف شعر وبائع صحف ومكتب بريد وكافيتريا وبعض الغرف الفندقية .. ويحتوي الطابق 17 على حضانة للأطفال تسع 150 طفلاً. وتم تشييد العديد من المنازل المماثلة في فرنسا وألمانيا بعد ذلك، وتبين أن مشاريع لو كوربوزييه جاءت في الوقت المناسب تمامًا.
الانطباع الأولي للكتلة يوحي بالغموض والضخامة وسيطرة الخرسانة المكشوفة مع تلوينها بالألوان الصريحة، ومن أهم الأفكار في تصميم المبنى هو أنه تم تقسيم المستطيلات في الواجهات باستخدام النسبة الذهبية.
كنيسة نوتردام- في قرية رونشامب: تقع جنوب شرق مدينة باريس، وتم تكليف لوكوربوزييه بتصميمها عام 1950، لاستبدال الكنيسة السابقة التي تم تدميرها خلال الحرب العالمية الثانية،وتقع الكنيسة على قمة تل، مما يعطيها أهمية ومهابة، وقد أرادت الكنيسة تصميماً خالياً من التفاصيل المعقدة، والاشكال الزخرفية الدينية، وقد تأثر لوكوربوزييه بأفكار المدرسة التعبيرية في هذا المشروع، حيث اراد خلق فضاء يبعث على التأمل ويعكس الغرض منه، فاستلهم الشكل من البيئة المحيطة حيث يقول: “في يونيو 1950 قضيت 3 ساعات لكي أتعايش مع موقع التل الذي بنيت عليه الكنيسة .. وبينما الفكرة تدور في عقلي رسمت أربعة خطوط مستوحاة من الأفق المحيط بي في أربعة اتجاهات، كانت هي المكون الأساسي لفكرة مسقط الكنيسة“، وجاءت الجدران بيضاء ناصعة، يعزز الاجواء التأملية دخول الضوء في المصلى ليضيف تأثيره التدريجي لهذه الجدران التي تخلق أحاسيس قوية للمستخدمين تتناغم مع النشاط الديني للمكان.
وأهم ما يميز هذا المبنى هو غرابة التشكيل المعماري الذي عليه كتلة المبنى من الخارج وكذا التشكيل المعماري للفراغ المعماري من الداخل.. بالشكل الذي يختلف كثيراً عما عليه الفكر المعماري للوكوربوزييه الذي يميل إلى تحقيق جوانب النظرية الوظيفية، ومع كل هذه الانتقادات فإن معظم النقاد اتفقوا على أنها من أكثر المباني الدينية إقناعاً في التعبير عن القرن العشرين. وقد وصف ”لوكوربوزييه“ فراغ الكنيسة بأنها الفراغ الذي لا يوصف .. حيث يساعد هذا النوع من الفراغات في توسيع قاعدة تأثير المبنى على المحيط الخارجي الذي يحيط به،
- مسابقة مقر عصبة الأمم في جنيف: قدم لوكوربوزييه مشروعا حداثي الطبع في تصميمه المعماري في المسابقة، وبالرغم من وجود تأييد لتصميم لو كوربوزييه من قبل بعض صغار أعضاء لجنة التحكم، فقد جاء قرار لجنة التحكم في نهاية الأمر بحجب الجائزة الأولى، وإلغاء مشاركة لو كوربوزييه بسبب طريقة الإظهار المعماري التي خالف فيها شروط المسابقة، وتم لاحقا تكليف أربعة من المتقدمين بعمل تصميم مشترك جاء بشكل محافظ أكثر تقليدية وانسجاما مع المبادئ التصميمية المعروفة والمتبعة في مدرسة الفنون الجميلة.
- وبالرغم من عدم فوز تصميم لو كوربوزييه بالمسابقة فقد حظي بإعجاب غالبية الكثير من المعماريين الشباب في ذلك الوقت، وقد عكست نتائج المسابقة الفجوة المتنامية بين المعماريين أنصار المناهج التقليدية لأكاديمية الفنون الجميلة، والمعماريين الأكثر حداثة مثل لو كوربوزييه.
- واعتبر كثير من المعماريين أن قرار لجنة التحكيم قرارا رجعيا بحق العمارة الحديثة.
أثر لو كوربوزييه في أعمال المهندسين المعماريين اليابانيين
تردد أصداء أثر لو كوربوزييه في جميع أنحاء العالم، وحظي بمكانه كبيرة كالتي حظي بها معماريون أمثال فرانك لويد رايت ولودفيغ ميس فان دير روه، واشتهر المهندس المعماري الياباني المعاصر تادو أندو، بمبانيه مثل متحف بينيس هاوس في جزيرة ناوشيما وكنيسة النور في أوساكا، دون أن يتلقى أي تدريب معماري بشكل رسمي، بخلاف ما تعلمه بفضل التطبيق والدراسة العمليين، ومن المعروف أنه اقتفى أثر لو كوربوزييه في تصميماته الهندسية، من خلال متابعة كتب التصميمات التي تضمنت رسومات لو كوربوزييه الهندسية.
نلتقي في المقال القادم مع رائد العمارة الوظيفية المعماري لويس سوليفان رائد مدرسة شيكاغو المعمارية.
المراجع:
نظريات العمارة – د. عرفان سامي
عمارة القرن العشرين – دراسة تحليلية للمهندس صلاح زيتون.
نظريات العمارة – د. هشام حسن علي