رحلة الغزالي نحو اليقين

رحلة الغزالي نحو اليقين
تحدثنا في المقال السابق عن: رحلة الغزالي من الشك إلى اليقين، فبعد أن أنهى الغزالي مرحلة التفوق العلمي والمنصب الرفيع في بغداد، بدأت في قلبه علامات الشك، فساءله سؤال داخلي عميق: هل ما أدرّسه وأتبعه هو الحقيقة؟ وهل هذه المعرفة تقود الإنسان إلى اليقين؟ من هنا تبدأ مرحلة البحث التي امتدت لسنوات، ليجد نفسه في مواجهة بحر من الفرق والمذاهب المختلفة، كل منها يدعي الحق، وكل منها يتباين في الطرق والمسالك.
أزمة البحث عن الحقيقة:
يقول الغزالي في كتابه:“المنقذ من الضلال”
“أما بعد: فقد سألتني أيها الأخ في الدين: أن أبثّ إليك غاية العلوم وأسرارها، وغائلة المذاهب وأغوارها، وأحكي لك ما قاسيته في استخلاص الحق من بين اضطراب الفرق، مع تباين المسالك والطرق. وما استجرأت عليه من الارتفاع عن حضيض التقليد، إلى يفَاع الاستفسار. وما استفدته أولًا من علم الكلام، وما اجْتَوَيْته ثانيًا من طرق أهل التعليم القاصرين لَدرك الحق على تقليد الإمام، وما ازدريته ثالثًا من طرق التفلسف، وما ارتضيته آخراً من طريقة التصوف.”
ويكمل الغزالي:
“فابتدرت لإجابتك إلى مطلبك، بعد الوقوف على صدق رغبتك، وقلت مستعيناً بالله ومتوكلاً عليه، ومستوثقاً منه، وملتجئاً إليه: اعلموا أحسن الله تعالى إرشادكم، وألاَنَ للحق قيادكم: أن اختلاف الخلق في الأديان والملل، ثم اختلاف الأئمة في المذاهب، على كثرة الفرق وتباين الطرق، بحر عميق غرق فيه الأكثرون، وما نجا منه إلا الأقلون…”
وكل فريق يزعم أنه الناجي، و{ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}[1] وهو الذي وعدنا بـه سيد المرسلينﷺ، وهو الصادق الصدوق حيث قال: [افترقتِ اليهودُ على إحدَى وسبعينَ فرقةً، وافترقتِ النصارَى على اثنتَينِ وسبعينَ فرقةً، وستفترقُ هذه الأمةُ على ثلاثٍ وسبعينَ فرقةً كلُّها في النارِ إلا واحدةً، قيل : من هي يا رسولَ اللهِ؟ فقال ﷺ: مَن كان على مِثلِ ما أنا عليه وأصحابِي] [2]. فقد كان ما وعد أن يكون.”
وهكذا يوضح الغزالي أنه بدأ رحلة البحث من عنفوان شبابه وحتى سن الخمسين، مبحرًا في دروب الفرق، متفحصًا عقائد كل طائفة، لا يترك باطنيًا إلا ويطلع على بطانيته، ولا ظاهريًا إلا ويريد معرفة حاصل ظاهريته، ولا فلسفيًا إلا ويقصد كنه فلسفته، ولا متكلّمًا إلا ويجتهد في الاطلاع على غاية كلامه، ولا صوفيًا إلا وأحرص على العثور على سر صوفيته.
تطور تجربته الغزالي الروحية:
بعد أن بحث الغزالي ووجد أن وسائل المعرفة هي: التقليد، الحواس والعقل، ثم انتقد الوسائل جميعا بالدليل والبرهان، فأصبح في مرحلة شك، دفعه الشك إلى البحث وطلب الحقيقة وتملس حقيقة الإيمان فدرس كل العلوم الدينية والفلسفية والمذهبية الموجودة في عصره فبحث عن أصناف الباحثين عن الحقيقة فانحصرت الفرق الطالبة للحق في عهد الغزالي إلى أربع فرق هي:
1. المتكلمون (علماء الكلام):
درس الغزالي كلام المتكلمين الذين يهدفون إلى حماية العقيدة، لكنه وجد أن وسائلهم عقلية محضة، لا تصل بالقلب
إلى اليقين، بل هي دفاع عن المعتقدات الظاهرية.قال الامام الغزالي “الغاية من علم الكلام هو حفظ عقيدة أهل السنة عن تشويش المبتدعة”، وعن اعتقـاد الجهال من المجسمة الذين يشبهون الله بالمخلوقات ويعتقدوا في االله تعالى وصفاته ما يتعالى االله عنه فنسبوا له الصورة واليد والنزول والانتقال والجلوس والاستقرار وزعموا أن معتقدهم هذا هو معتقد الـسلف، فـشرع يبـين اعتقاد السلف وما يجب على عموم الخلق أن يعتقدوه.
من أجل التمييز بين ما يجـب البحث عنه وما يجب الإمساك والكف عن الخوض فيه؛ وأصدر كتابه إلجام العوام عن علم الكلام، ولم يكن علم الكلام مقنعا للغزالي فظل يبحث عن الحقيقة فانتقل إلى الصنف الثاني من طالبين الحقيقة وهم الفلاسفة.
2. الفلاسفــــــــة:
درس الغزالي فلاسفة اليونان وابن سينا والفارابي، الذين يزعمون أنـهم أهل المنطق والبرهان، فأصدر أولاً كتابه مقاصد الفلاسفة، واستعرض فيه مناهج الفلاسفة وأدلتهم، ثم أصدر كتابة التالي تهافت الفلاسفة واستخدام العقل وحده للكشف عن قصورها وعجزها وضعفها.
ونظم الغزالي كتابه في عشرين مسألة، وأبطل مذهبهم في إنكارهم البعث، وحشر الأجساد، مع التلذذ والتألم بالجنة والنار، وأوجب تكفيرهم في ثلاثة مسائل، وتبديعهم في سبعة عشر مسألة، فما قامت للفلسفة قائمة بعد ذلك، وأفل نجم المعتزلة الذين ولعوا بالجدل والمناقشات الكلامية، وجاهد السادة الاشاعرة ما وسعهم الجهد للحفاظ على القران الكريم والسنة النبوية بعيدا عن تأويلات المعتزلة وخلافات الفرق العقائدية.
3. الفرق الباطنية
اتجه أيضًا إلى دراسة الباطنية، ففي عهد الغزالي، انتشر المذهب الاسماعيلي، وهو مذهب شيعي باطني، يقول بان العلم ﻻ بد من تلقيه من قبل الامام المعصوم، وان الحق واليقين ﻻ يمكن تحصيله بالفكر والنظر، بل لا بد من اتباع الامام المعصوم وهو الذي لدية العلم اللدني، ولم يعترف الغزالي بعصمة هذا الامام و ينكر وجود دليل عقلي او نقلي علي عصمة اي شخص الا سيد الخلق سيدنا محمد ﷺ، لكنه وجد هذا الطريق يلغي دور العقل ولا يقدم رؤية مباشرة للحق. فأصدر 3 كتب وذلك لبيان فساد مذهب الباطنية هي:
- فضائح الباطنية.
- حجة الحـــــــــــــق.
- فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة.
4. الصوفية
أخيرًا، وجد الغزالي في الصوفية الطريق العملي للمعرفة، الزهد والخلوة والذكر والانقطاع إلى الله. اتبع نصائحهم في الانعزال عن الجاه والمال والشواغل، حتى يرقى قلبه ويستوي فيه وجود كل شيء وعدمه.
يقول الغزالي: “علمت يقينا ان الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالي خاصة، وان سيرتهم احسن السير، وطريقهم اصوب الطرق، واخلاقهم ازكي الاخلاق” – ابتدأت بمطالعة الكتب مثل (قوت القلوب) لأبي طالب المكي رحمه الله، وكتب الحارث المحاسبي، والمتفرقات المأثورة عن الجنيد..،
فعلمتُ يقيناً: أنهم أرباب الأحوال لا أصحاب الأقوال، وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصلته، ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع والتعليم، بل بالذوق والسلوك، وكان قد ظهر عندي: أنه لا مطمع في سعادة الآخرة إلا بالتقوى، وكفِّ النفس عن الهوى، وأن رأس ذلك كله: قطع علاقة القلب عن الدنيا، بالتجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى، وأن ذلك لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال، والهرب من الشواغل والعلائق.
أهم مؤلفات الإمام أبو حامد الغزالي:
ترك إرثًا علميًا ضخمًا أثر في الفكر الديني والفلسفي حتى اليوم. كتب الغزالي تناولت شتى المجالات، من الفقه وأصول الدين إلى الفلسفة والتصوف، وجمعت بين النظرية والتطبيق، وبين العقل والقلب. فيما يلي أهم مؤلفاته التي تعتبر مرجعًا للعلماء والباحثين ودرسًا للأجيال القادمة.
اسم الكتاب | اسم الكتاب | اسم الكتاب |
إحياء علوم الدين (4 مجلدات) | المنقذ من الظلال | فضائح الباطنية |
فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة | الوسيط في المذهب | ايها الولد المحب |
إلجام العوام عن علم الكلام | مقاصد الفلاسفة | تهافت الفلاسفة |
المستصفى في علم أصول الفقه (مجلدان) | منهاج العابدين في الزهد والأخلاق والعبادات | المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى |
القسطاس المستقيم | كمياء السعادة (بالفارسية) | حجة الحق |
التبر المسبوك في نصيحة الملوك | بداية الهداية | ياقوت التأويل في تفسير التنزيل |
الاقتصاد في الاعتقاد | محك النظر (منطق) | الوجيز في فقه الإمام الشافعي |
وفاتــــــــــة:
عقب عودته إلى مدينته طوس، حيث مكث فيها بضع سنوات قليلة، توفي الإمام الغزالي في 14 جمادى الآخرة 505 هـ، الموافق 19 ديسمبر 1111م. وكان الغزالي قد أنجب بناتًا فقط. وقد ذكر اخو الامام الشيخ أحمد أن في يوم وفاته، توضأ الإمام وصلى، ثم طلب الكفن ليضعه بين عينيه، ثم ألقى السلام والتحية، وقال: “سمعًا وطاعة” استعدادًا للقاء الملك، ومد قدمه تجاه القبلة، فتوفي قبل طلوع الفجر. وقبل رحيله، أوصى بعض أصحابه بالإخلاص. رحم الله الإمام الغزالي رحمة واسعة.
رحلة الغزالي تعلمنا أن الحق لا يُنال بالتقليد الأعمى ولا بالعقل وحده، بل بالسعي الصادق والبحث المتواصل، وبمزج العلم بالعمل، والفكر بالقلب. لم يكتفِ الغزالي بالتجربة النظرية، بل خاض رحلة عملية داخل نفسه، متجاوزًا الفلاسفة والمتكلمين والباطنية، حتى وجد طريقه في التصوف والعبادة الصافية. ومن خلال كتابه العظيم “إحياء علوم الدين” وكتبه الأخرى، ترك إرثًا خالدًا للإنسانية، دليلًا على أن اليقين نور يضيء القلب، وأن البحث عن الحقيقة طريق طويل لكنه ممكن لكل من ابتغى الحق بصدق وإخلاص.
وهناك قصيدة شهيرة منسوبة للإمام أبو حامد الغزالي، قيل إنه كتبها قبيل وفاته، وتُعرف بعنوان “قل لإخوان رأوني ميتًا”. هذه الأبيات تعبر عن تأملاته في الموت والآخرة، وتُظهر عمق تجربته الروحية وفهمه للموت كمرحلة انتقالية نحو حياة أبدية. يقول فيها:
قل لإخــــــــــوان رأوني ميتًا *** فبكــــــــــــوا ورثوا لي حزنًــا.
أتظنـــــــون بأني ميتكـــــم؟ *** ليس ذاك الميت، والله أنا.
أنا في الصور وهذا جسدي *** كان بيتي وقميص زمنًــــا.
أنا در قد حوانـــــــي صدف *** طرت عنه وبقى مرتهنـــــا.
أنا عصفـــور وهذا قفصي *** كان سجني فتركت السجنا.
أشكر الله الذي خلصنــي *** وبنا لي في المعالي وطنا.
كنت قبل اليوم ميتًا بينكم *** فحييت وخلعت الكفنًــــا.
قد ترحلت وخلفتكم لست *** أرضى داركم لي وطنــــا.
وأنا اليوم أناجــــــــــي ملكًا *** وأرى الحق جهارًا علنــــــا.
عاكفًا في اللوح أقرأ وأرى *** كل ما كان ويأتـــي أو دنا.
وطعامي وشرابــي واحد *** وهو رمز فافهموه حسنا.
ليس خمرا سائغًا أو عسلا *** لا ولا ماء ولكن لبنـــــــــا.
المراجع:
[1] (سورة الروم: الاية 32).
[2] (الحديث عن ابي هريرة – أخرجه أبو داود (2 / 503 – طبع الحلبي)، والترمذي (3 / 367)، وابن ماجه (2 / 479)، وابن حبان في «صحيحه» (1834)، والزيادة من قول الصحابة من هي يا رسول الله – قد أخرجها الطبراني في المعجم الأوسط (8 / 22 برقم7840).
وبكدة نكون وصلنا لنهاية الجزء الاول من المقال عن رحلة الغزالي نحو اليقين، وحديثه عن الفرق الطالبة للحق
في المقال القادم نستكمل الحديث عن:
للحصول على مزيد من المعلومات برجاء متابعى على المنصات التالية:
الفيسبوك: https://www.facebook.com/profile.php?id=100088893776257
اليوتيوب: https://www.youtube.com/@ashrafrashad8031
التيك توك:https://www.tiktok.com/@ashraf.r1
الانستاجرام:https://www.instagram.com/ashraf.rashad.58/