بيعة العقبة الأولى والثانية
بيعة العقبة الأولى والثانية: من الإيمان الفردي إلى التأسيس للدولة
تمهيد
بعد سنوات طويلة من الدعوة في مكة، وما صاحبها من اضطهاد واستضعاف، بدأت معالم مرحلة جديدة تتشكل في مسار الدعوة الإسلامية، مرحلة تنتقل فيها الرسالة من حدود الإيمان الفردي إلى آفاق التنظيم والجماعة، ومن الصبر على الأذى إلى بناء الكيان. وكانت بيعات العقبة محطات فاصلة في هذا التحول التاريخي، مهدت للهجرة، وأرست الأسس الأولى للدولة الإسلامية.
أولًا: بيعة العقبة الأولى (621م) – بيعة الإيمان والأخلاق
في موسم الحج من العام الثاني عشر للبعثة، قدم إلى مكة اثنا عشر رجلًا من أهل يثرب، من بينهم الستة الذين سبق لهم الإسلام في العام السابق، وكانوا عشرة من الخزرج واثنين من الأوس. لم يكن لقاؤهم برسول الله ﷺ هذه المرة إعلانًا جديدًا للإسلام، بل خطوة أعمق وأرسخ: البيعة.
التقى القوم بالنبي ﷺ عند العقبة بمنى، وجاؤوا وقد استقر الإيمان في قلوبهم، راغبين في الالتزام بالإسلام عقيدةً وسلوكًا. ولم يطلب منهم رسول الله ﷺ في هذه البيعة أن يمنحوه الأرض أو الحماية، وإنما اقتصر الأمر على الجانب السلمي والأخلاقي من رسالة الإسلام.
فقال لهم ﷺ:
«تعالوا بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف…»
فبايعوه على ذلك، وعُرفت هذه البيعة باسم بيعة النساء، لتشابه بنودها مع البيعة التي أخذها الرسول ﷺ من النساء فيما بعد.
كانت هذه البيعة إيذانًا بانتهاء مرحلة الذل والاستضعاف، وبداية فجر جديد للدعوة الإسلامية. فقد أعقبتها بشائر خير عديدة؛ عاد بعدها عدد من المهاجرين من الحبشة، ومنهم مصعب بن عمير، وهدأ الضغط على المسلمين في مكة نسبيًا، وبدأ رسول الله ﷺ يلمس صدق الأنصار، وحميتهم لنصرة الدين، مما جعله يدرك أن يثرب مرشحة لأن تكون الحاضنة الكبرى للدعوة.
غير أن إسلام أهل المدينة كان لا يزال في بداياته، وكان لا بد من تعزيز الوعي الديني، ونشر القرآن والسنة بينهم، فكان القرار النبوي بإرسال أول سفير في الإسلام.
ثانيًا: مصعب بن عمير – أول سفير في الإسلام
اختار رسول الله ﷺ الصحابي الجليل مصعب بن عمير رضي الله عنه ليكون مبعوثه إلى يثرب، لما تميز به من علم، وحكمة، ولباقة، وهدوء، وصبر، وسعة صدر. كان مصعب من أشراف مكة، ومن أكثر شبابها نعيمًا قبل الإسلام، لكنه ضرب أروع الأمثلة في الزهد والتجرد والتضحية.
نزل مصعب في ضيافة أسعد بن زرارة، وبدأ دعوته بالحكمة والموعظة الحسنة. وذات يوم خرجا إلى ديار بني عبد الأشهل وبني ظفر، فجلسا عند بئر مرق، واجتمع حولهما نفر من المسلمين. وبلغ الخبر سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، وهما سيدا قومهما، فأرسل سعد أسيدًا ليزجرهما.
لكن مصعب استقبل الموقف بثبات ووداعة، وقال لأسيد:
«أولا تجلس فتستمع؟ فإن رضيت أمرنا قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره».
فأعجب أسيد بعدله وحكمته، وجلس يستمع. وما إن تلا مصعب عليه آيات من القرآن وشرح له الإسلام، حتى انشرح صدره وأسلم.
ثم جاء سعد بن معاذ، فحدث معه الأمر نفسه، فأسلم، وعاد إلى قومه داعيًا، فلم تمسِ تلك الليلة حتى أسلم بنو عبد الأشهل جميعًا. وانتشر الإسلام في المدينة انتشار النور، حتى لم يبق بيت من بيوت الأنصار إلا وفيه مسلم أو مسلمة.
عاد مصعب رضي الله عنه إلى مكة قبيل موسم الحج التالي، يحمل إلى رسول الله ﷺ بشائر النجاح، ويبشره بأن المدينة أصبحت مهيأة لمرحلة أعظم.
ثالثًا: بيعة العقبة الثانية (622م) – بيعة النصرة وبناء الدولة
في ليلة الحادي عشر من ذي الحجة، من العام الثالث عشر للبعثة، حدث اللقاء الثالث بين الرسول وأهل يثرب وتمت بيعة العقبة الثانية في سرية تامة وتخطيط محكم. حيث خرج وفد يثرب المكون من ثلاثة وسبعين رجلًا وامرأتين في جنح الليل، وتقدمهم رسول الله ﷺ ومعه عمه العباس.
كانت هذه البيعة مختلفة تمامًا؛ بيعة شاملة صريحة، تضمنت السمع والطاعة، والنفقة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونصرة الرسول ﷺ والدفاع عنه كما يدافعون عن أنفسهم وأهليهم. وكان الجزاء وعدًا صريحًا: «ولكم الجنة».
اختار النبي ﷺ من بينهم اثني عشر نقيبًا، في أول تنظيم إداري واضح في تاريخ الدعوة، ليشرفوا على شؤون المسلمين في يثرب، ويكونوا كفلاء على قومهم. وبذلك أصبحت المدينة قاعدة جاهزة لاستقبال الرسول ﷺ وأصحابه.
عُرفت هذه البيعة باسم بيعة الحرب، لأنها أعلنت الانتقال من مرحلة الدعوة المجردة إلى مرحلة الحماية والدفاع، ووضعت مفهوم الجهاد في إطاره الصحيح: بناء مجتمع قائم على العدل، والمساواة، والقيم الإنسانية، لا على العصبية أو العدوان.
خاتمة وتمهيد للهجرة
بهاتين البيعتين، اكتمل الإعداد التاريخي للهجرة، وتحوّلت الدعوة الإسلامية من مرحلة الصبر في مكة إلى مرحلة البناء في يثرب. اشتد أذى قريش، فأذن رسول الله ﷺ لأصحابه بالهجرة، لتبدأ صفحة جديدة في تاريخ الإسلام، صفحة الهجرة من مكة إلى المدينة، وبداية التقويم الهجري، وتأسيس أول دولة تقوم على رسالة السماء.
للحصول على مزيد من المعلومات برجاء متابعى على المنصات التالية:
الفيسبوك: https://www.facebook.com/profile.php?id=100088893776257
اليوتيوب: https://www.youtube.com/@ashrafrashad8031
التيك توك:https://www.tiktok.com/@ashraf.r1
الانستاجرام:https://www.instagram.com/ashraf.rashad.58/



