Web Analytics
نظريات قيام الحضارات

نظرية ابن خلدون لمفهوم الحضارة

  1. نظرية ابن خلدون لمفهوم الحضارة: تحدثنا في المقال السابق بعنوان: نظريات قيام الحضارات وأسباب انهيارها، واليوم نتحدث عن العلامة العربي الكبير ابن خلدون [1] هو مؤسس علم الاجتماع المعاصر في العالم كله، وكان في طليعة المفكرين الذين ناقشوا قضية العمران وعوامل قيام وانهيار الأمم في عمله الخالد: “كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر [2]، وذلك قبل ان يتطرق اليها المؤرخون والمفكرون في الغرب بزمن طويل، والذي يُعَدُّ موسوعةً تاريخيةً.ويقع الكتاب في سبع مجلدات. وطبع بعنوان تاريخ ابن خلدون، يتصدر كتاب العبر كتاب المقدمة، واحتوت مقدمة الكتاب على عدة آراء وأفكار جعلت الباحثين يعتبرون الرجل مؤسسا لعلم الاجتماع
  • واعتبرت مقدمة ابن خلدون لاحقاً مؤلفاً منفصلاً ذا طابع موسوعي إذ يتناول فيه جميع ميادين المعرفة من الشريعة والتاريخ والجغرافيا والاقتصاد والعمران والاجتماع والسياسة والطب. وقد تناول فيه أحوال البشر واختلافات طبائعهم والبيئة وأثرها في الإنسان. كما تناول بالدراسة تطور الأمم والشعوب ونشوء الدولة وأسباب انهيارها مركزاً في تفسير ذلك على مفهوم العصبية.)
  • وقد تأثر المؤرخين والمفكرين بابن خلدون وافكاره، عندما ناقشوا القضية بعد ذلك، ونظرية العمران كما تصورها ابن خلدون تبدو متزاحمة الموضوعات، عسيرة الهضم إلا إذا قرأت مع الصبر والتزام الأناة ودقة المتابعة بين فصول كتاب العمران والمقدمة. ذلك لأن ابن خلدون عميق الفكر، متدفق الإنتاج.

تعريف ابن خلدون لمفهوم الحضارة:

  • معنى الحضارة عند ابن خلدون كما جاء في مقدمته فهي: “طور طبيعي أو جيل من أجيال طبيعية في حياة المجتمعات المختلفة، وكذلك البداوة أقدم، والبدو أصل الحضر و “الحضارة غاية للبداوة ” ذلك أن نحلة البدو من المعاش تقتصر على الضروري منه فيكون “حينئذ اجتماعهم وتعاونهم في معاشهم وعمرانهم من القوت والسكن والدفء إنما هو بالمقدار الذي يحفظ الحياة، ويحصل بلغة العيش من غير مزيد عليه للعجز عما وراء ذلك.
  • وعرّف ابن خلدون الحضارة بأنّها “تفنّن في الترف وإحكام الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله”، وعرّفها ضمن بأنّها الوصول إلى قمّة العمران والتطوّر الثقافي والشخصي للمجتمع والدخول للرقي الإجتماعي الثابت فالحضارة بوجهة نظره هي نهاية العمران، بيد أنّ ابن خلدون تأثّر في ثقافة عصره وألفاظها التي تختلف عنها الآن،
  • وقد اعتبر ابن خلدون ان التاريخ مجالاً للتأمل والاعتبار، وحرص على إيضاح فوائده، فيقول في مقدمته الشهيرة: “إن فن التاريخ غزير المذاهب جم الفوائد، شريف الغاية إذ هو يوقفنا على أحوال الماضيين من الأمم في أخلاقهم، والانبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم“، ويرى أن هناك سببين رئيسيين لنشوء الدولة همـــــا:

السبب الأول لنشوء الدولة هو: حفظ أمن المجتمع: ليتمكن الناس من العيش والإنتاج، ولما كان كل فرد عاجزا عن تحصيل جميع حاجاته المادية الضرورية لبقائه بمفرده، فقد اقتضى ذلك اجتماع الناس وتعاونهم، والتعاون استدعى تقسيم الأعمال فيما بينهم، وأشار ابن خلدون لذلك بقوله: (فالناس إنما يجتمعون للتعاون في تحصيل المعاش، ابتداء بما هو ضروري وبسيط قبل الكمالي، فمنهم من يستعمل الفلاحة، ومنهم من ينتحل القيام على الحيوان، ومن هؤلاء من ينتحل الصنائع، ومنهم من ينتحل التجارة( ولكن مصالح الأفراد متناقضة فيما بينهم، ولذلك لابد من أداة ضبط تحمي مصالح الناس، وتقيهم شر الصراع، وهنا يأتي دور الدولة التي تقود المجتمع، وتوازن بين مصالح الناس المتناقضة وتحقق الاستقرار والسلام بين أفراده.

السبب الثاني لنشوء الدولة هو: العصبيـــــــة: ومفهوم العصبية على الأغلب، يعني العلاقة بين ذوي القربى، ولكي يتسنى لنا توضيح دور العصبية في قيام الدولة ونشوئها، لابد لنا من أن نرجع إلى تقسيم ابن خلدون للاجتماع البشري والذي يقسمه إلى قسمين هما:

  • ولكنها تنطلق دائما من بيئة البادية الأكثر توحشا، وتنتهي دائماً ببيئة المدينة الأكثر تحضرا؛ وهي مقولة تصدق على الدول التي استقراها ابن خلدون في شمال إفريقيا، وفي التاريخ العربي، ولكنها تصدق أيضا في حالات أخرى كالرومان، والمغول، والأتراك، وغيرهم.
  • أعمــــــــــار الدول: شبه “ابن خلدون” الحضارة بالكائن الحي وطبق عليها قانون الطبيعة وناموسها، وأشار إلى أنّ الحضارة تمر بمراحل ثلاث كالإنسان الذي يولد صغيرًا ضعيفًا، ومع الأيام يشتد عوده وينمو جسمه ويكبر حتى يبلغ تمام النضج والاكتمال في سن الأربعين.
  • فيرى ابن خلدون، إن الدول لها دورة حياة مثلها مثل الانسان.. أي أن للدولة لحظة ميلاد تبدأ قوية تحت قيادة منشئيها، ثم يقوى عودها وتشتد، وللعمران في نطاق الدولة مرحلة تألق وازدهار تكون قمته في الجيل الثاني، ولا يكاد ينتهي الجيل الثالث حتى تكون قد أشرفت الدولة على الزوال، ثم إنها تهرم ثم تموت، وجعل ابن خلدون للدولة عمرا ً كعمر الإنسان، لا يزيد في أحسن حالاته عن ثلاثة أجيال، كل جيل عمره أربعون سنة، ذلك لأنَّه اعتبر متوسط عمر الشخص أربعين سنة، حيث يبلغ النضج إلى غايته مستشهداً بقوله تعالى: {حَتَّى إذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [3]. أي مائة وعشرين عاما طبيعيا، وقد ضرب ابن خلدون أمثلة لأعمار الدولة على بعض الدول ففي المغرب العربي نجد :
  • دولة المرابطين: استمرت من عام 440هـ/ 1048م الى عام 541هـ/1146م أي 100 عام تقريباً) وتأسست على يد يحيى ابن إبراهيم والفقيه المالكي عبد الله بن ياسين وهما من قبيلة صنهاجة التي كانت تستوطن جنوب موريتانيا، وبعد عقود من التقدم والقوة، مرت بفترة انحطاط عرفت خلاله هزائم عسكرية متتالية على يد الإسبان في الأندلس، إلى جانب ضعف الدولة في المركز، بعد نشوء حركات تمرد في الداخل حتى جاءت لحظة السقوط في عام 541هـ لتميط اللثام على واحدة من أهم الفترات التاريخية في بلاد المغرب العربي قاطبة.
  • دولة الموحدين: (استمرت من عام 515هـ / 1121م – الى- عام 674هـ / 1275م أي 154 عاماً تقريباً) أسسها اتباع محمد ابن تومرت، وتُنسَب إلى جماعة إسلاميّة يُنزِّهون الله تعالى عن كلِّ تشبيه له بالخَلْق، وقد ضمَّت دولة المُوحّدين في أَوْج ازدهارها مساحة جغرافيّة كبيرة؛ حيث شملت (المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا)، بالإضافة إلى الأندلُس، وسقطت بعد كارثة معركة العُقاب سنة 609 هـ، وهزيمة الموحدين من الاسبان، ضعف وتفتت كيان السلطة المركزية لدولة الموحدين، بالإضافة لتفشي وباء الطاعون وهلاك الجند، فغاب الأمن في البلاد، فظهر بنو مرين على مسرح الأحداث السياسية واستطاعوا إلحاق الهزيمة بالجيش الموحدي الذي أعده والي فاس لحربهم في أول صدام لهم مع الموحدين.
  • دولة المرينيين: (استمرت من عام 642هـ / 1244م – الى- عام 869هـ / 1465م أي 221 عاماً تقريباً) هي سلالة أمازيغية حكمت بلاد المغرب الأقصى، وتوسعت حدود دولتهم خارج نطاق المغرب في عهد السلطان أبي سعيد الأول، ويوسف بن يعقوب وتميزت عن بقية الدول التي سبقتها في حكم المغرب كونها لم تصل إلى الحكم تحت شعار فكرة دينية كما فعل المرابطين والموحدين، فقد اعتمد بنو مرين على قوتهم العددية وتنظيماتهم القبلية، المكونة من قبائل زناتة، والمتحالفة لاحقا مع القبائل العربية، مما أعطى هامشاً كبيراً للإبداع والتطور الفكري والحضاري، فأطلق بنو مرين للناس حرية الاعتقاد والتمذهب، فعاد المذهب المالكي إلى الظهور قوياً كما كان أيام المرابطين، بعد أن نبذ وحارب الموحدون الفروع والتقليد.
  • دولة الحمدانيين في الشام: استمرت من عام 318هـ / 930م – الى- عام 393هـ / 1003م أي 73 عاماً تقريباً، منها 59 سنة في حلب وحدها التي شهدت عصر الدولة الحمدانيَّة الذهبي، وذلك في عهد مؤسس الإمارة الحلبيَّة سيف الدولة الحمداني944 – 967 (واستمرَّت الإمارة الحمدانيَّة قائمة إلى أن تُوفي سعيد الدولة سنة 1003م، فانقضَّ الفاطميُّون على حلب ودخلوها فاتحين.

وقدم ابن خلدون تصورا متكاملا لمراحل تطور الدول من قيامها حتى موتها. هذا التصور يقوم على ان الدول تمر بخمسة اطوار هي:

الطور الأول:النشأة – البداوة: يقتصر الأفراد فيها على الحاجات والضرورة في أحوالهم، وجميعهم يسعى في تحصيل معاشهم، وهي مرحلة تتصف بخشونة العيش، وتوحش الأفراد، كما تتصف بوجود العصبية القبلية، وهي الأساس الذي يقوم عليه الاجتماع الإنساني، وهو طور التأسيس، وفيه يكون:

  • السلطان جديد العهد بالملك. لذا فهو لا يستغني عن العصبية القبلية، وإنَّما يعتمد عليها لإرساء قواعد ملكه، فيكون الحكم في هذه المرحلة مشتركاً نوعاً ما بين الملك وبين قومه وعشيرته، ويتميز هذا الطور ببداوة المعيشة، وبانخفاض مستواها، فلم يعرف الغزاة الجدد بعد الترف. ويشترك الجميع في الدفاع عن الدولة لوجود الشجاعة والقوة البدنية.
  • الطور الثاني: حالة الملك والاستبداد: وينتقل المجتمع فيها من حياة البادية إلى حياة الحضر حيث التطور ومواكبة العصر، وتبدأ عملية الانفراد بالملك، ويرى ابن خلدون أنَّ الانفراد بالسلطة ميل طبيعي وفطري لدى البشر، ولذا فإنَّ السلطان عندما يرى ملكه قد استقر يعمل على قمع العصبية، كما يعمل على الانفراد بالحكم، واستبعاد أهل عصبته من ممارسة الحكم، وعندئذ يتحول من رئيس
  • عصبية إلى ملك، ويضطر السلطان إلى الاستعانة بالموالي للتغلب على أصحاب العصبية، أي أنَّه يبدأ في هذه المرحلة الاعتماد على جيش منظم من أجل المحافظة على المُلك.
  • الطور الثالث: مرحلة الترف والنعيم: حيث يتم تحصيل ثمرات الملك وتخليد الآثار، ويحصل المجتمع فيها على الغنى والرفاه الاجتماعي، مما يؤدي للاستقرار والطمأنينة، ويتفرغ السلطان لشؤون الجباية، وإحصاء النفقات والقصد فيها، وفي هذه المرحلة يستمتع الجميع: السلطان بمجده، وحاشيته بما يغدقه عليها السلطان، وبذلك تكون الحضارة في أوجها مما ينعكس على الدولة، فالسلطان لتخليد ملكه يبني المباني العظيمة الشاهدة على عظمته، والناس تشييد البيوت، ويتم بناء وتخطيط المدن؛ وامتهان الصناعة، والتجارة، وبشيوع مظاهر الترف يظهر الفساد ويبدأ الهرم وتكون بداية نهاية الدولة.
  • الطور الرابع: هو طور القنوع والمسالمة: وفي هذا الطور يكون صاحب الدولة قانعاً بما بناه أسلافه مقلداً لهم قدر ما يستطيع، والدولة في هذه المرحلة تكون في حالة تجمد فلا شيء جديد يحدث، وتغير يطرأ، كأن الدولة تنتظر بداية النهاية.
  • الطور الخامس: هو طور الإسراف والتبذير: ويكون صاحب الدولة في هذا الدور متلفاً لما جمعه أسلافه في سبيل الشهوات والملاذ والكرم على بطانته، فيكون مخرباً لما كان سلفه يؤسسون، وهادماً لما كانوا يبنون، وفي هذا الطور تحصل في الدولة طبيعة الهرم، ويستولي عليها المرض المزمن الذي لا برء منه إلى أن تنقرض، هكذا قدم ابن خلدون تصورا لمراحل الانهيار التدريجي للدول، وسبب الانهيار في كل مرحلة الى ان ينتهي الامر بزوال الدولة.

الأسس الإسلامية في نظرية الدولة عند ابن خلدون

  • بنى ابن خلدون نظريته على أنَّ للدولة أعماراً مثل أعمار البشر على الأسس القرآنية التالية:المرحلة الاولي: أنَّ للدولة أعماراً ينتهي كيانها بنهايتها، ثُمَّ تخلفها دولاً أخرى أكثر نظاماً، وأشد قوة، وأوفر صلاحاً، من ذلك قوله تعالى: {وكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ} [4]، والقرية هنا، وفي آيات أخرى هي الدولة أو الدول، والقرية الظالمة هنا هي الدولة الفاسدة، فالظلم هو أشد ألوان الفساد.
  • المرحلة الثانية في حياة الدولة: مرحلة القوة والنماء، ورغد العيش، ولين الحياة مع الحفاظ على نعم الله، والامتثال لأوامره ونواهيه، وهذه المرحلة تستمد من الآية الكريمة {وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ والْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}[5].
  • المرحلة الثالثة وهي مرحلة السقوط: فإذا مالت الدولة إلى البطر والظلم انتهى الأمر بها إلى الانحلال والضياع، ويتمثل ذلك في الآية الكريمة: {وتِلْكَ القُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً}[6] ، فالعدل عامل مهم في تطوّر العمران والظلم أحد أهم أسباب الانهيار فهو مؤذن بخراب الحضارة.
  • وعلى هذه الأسس القرآنية استمد ابن خلدون هذه الأطوار الثلاثة، وهي طور النشأة والميلاد، وطور القوة والارتقاء، وطور التفتت والسقوط، أمَّا الطور الثاني في الدولة عنده، فهو مرحلة انتقالية للطور الثالث، والطور الرابع مرحلة انتقالية للطور الخامس، وقد استمد هذين الطورين من الواقع التاريخي للعالم الإسلامي، ومن القرآن الكريم فعنون فصله بـ: “الظلم مؤذن بخراب العمران”.
  • النظرية الاقتصادية عند ابن خلدون: إن ما يميز نظريات ابن خلدون السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتربوية أنَّ أكثرها قابل للتطبيق في كل زمان ومكان.
  • ويعد ابن خلدون أول مفكر عالمي يرى أهمية الاقتصاد للسياسة، ففي الفصل الذي بعنوان: “نقصان الدفع يؤدي إلى نقصان الإيراد” يقول :

فالمال إنَّما هو متردد بين الحاكم والرعية منه إليهم ومنهم إليه، فإذا منعه (حبسه عنده) فقدته الرعية.

فهنا نجد ابن خلدون قد اعتبر الدولة هي السوق الأعظم أو قوة إنتاجية أو سوق منتجة، فإن كسدت وقلَّت مصارفها لحِقَ الكساد بقية السوق، وما توصل إليه ابن خلدون في هذا يعتبر اليوم من مفاخر علم الاقتصاد.

فقد اعتبر ابن خلدون أن الدولة تكون منتجة بحمايتها لمصادر الإنتاج، وتأخذ الضرائب مقابل حمايتها لهذه الثروات، ويرى أنَّ قلة الضرائب تؤدي إلى زيادة الاعتماد لتزايد الاغتباط بقلة المغرم، وبزيادة الضرائب يحدث العكس.

تأثير البيئة وجغرافية العمران: حيث بدأ ابن خلدون مناقشته للعمران البشري، واختلاف الناس في صفاتهم وعاداتهم وأحوالهم وتاريخهم، من دراسة أقاليم الأرض كما عرفها الجغرافيون القدماء، وهي سبعة أقاليم متدرجة من خط الاستواء إلى القطب الشمالي، حيث يقل السكان في المناطق المتطرفة شديدة الحرارة أو شديدة البرودة، ويكثرون في المناطق المتوسطة المعتدلة، وتتضح أهمية دور البيئة والمكان في فكر ابن خلدون في تصنيفه الجماعات البشرية حيث يقول: وأكمل هذه الأقاليم عمراناً هو الإقليم الرابع (الذي منه حوض البحر الأبيض المتوسط وامتداداته شرقاً إلى إيران الخ). ولهذا كانت العلوم والصنائع والمباني والملابس والأقوات والفواكه بل والحيوانات، وجميع ما يتكون في هذه الأقاليم الثلاثة المتوسطة مخصوصة بالاعتدال. وسكانها من البشر أعدل أجساماً وألواناً وأخلاقاً وأدياناً، حتى النبوءات فإنما توجد في الأكثر فيها(…) وأهل هذه الأقاليم أكمل لوجود الاعتدال لهم، فتجدهم على غاية من التوسط في مساكنهم وملابسهم وأقواتهم وصنائعهم: يتخذون البيوت المنجدة بالحجارة المنمقة بالصناعة ويتناغون في استجادة الآلات والمواعين. وتوجد لديهم المعادن الطبيعية(…) ويتصرفون في معاملاتهم بالنقدين العزيزين(…) وأما الأقاليم البعيدة عن الاعتدال مثل الأول والثاني، والسادس والسابع، فأهلها أبعد من الاعتدال في جميع أحوالهم: فبناؤهم من الطين والقصب، وأقواتهم من الذرة والعشب، وملابسهم من أوراق الشجر يخفضونها عليهم أو الجلود وأكثرهم عرايا من اللباس.

وقف ابن خلدون عند ظاهرة الترف وخمول الدعة سببا جوهريا في انهيار الحضارات الكبرى

واستخدم ابن خلدون منهج التحليل العلمي في تعليل أسباب ازدهار ومن ثم انقطاع العمران، الى  الانغماس في الترف والركون إلى حياة الدعة، والإسراف في الاستسلام لنوازع اللذة الحسية بمعنى الاستهلاك الكمالي الذي تغيب عنه بيئة الابتكار والتجدد ومناخ الإنتاج وإتقان العمل والإبداع.

ويمكننا تلخيص نظرية ابن خلدون في العمران في العناصر الآتية:

  • العلم والتعليم: العلم والتعليم أمران أساسيان في العمران مرتبطان به إيجاباً وسلباً، فحيث يزدهر العمران تكاد تكون سوق العلم نافقة، فإذا لم يتوفر العلم في المجتمع صارت الرحلة في طلبه أمراً ضرورياً، ومن ثم فحيث يزدهر العلم يرقى العمران، والعكس صحيح.
  • العمران والصنائع: لا يتم العمران ويرقى إلا بوجود الصنائع، متمثلة في الفلاحة والصناعة والتجارة، فعليها جميعاً يتوقف رخاء المجتمع ورفاهيته. وكلما ارتقت الصناعة، وراجت التجارة، وعم الرخاء وانتعش الاقتصاد كان لذلك أثره في رفاهية المجتمع البشري ورقيه وبلوغه مراحل الترف والنعيم.
  • مواقع المدن: يعتبر الموقع الجغرافي عاملاً هاماً لنشوء حضارة ما؛ فحسن اختيار مواقع المدن والأمصار ضروري لاستدامة العمران؛ وذلك من حيث المنعة، وسهولة الدفاع عنها، ومن حيث توفر الخيرات وكثرة الأرزاق كالقرب من الماء العذب، وضمان المراعي للسائمة ومراعاة وجود المزارع حولها لتزويدها بأنواع الطعام.

المراجع:

[1] (ولد العلامة عبد الرحمن ابن خلدون: في تونس سنة 732هـ (1332م)، وأقام في المغرب حتى عام 784هـ ، ثم انتقل إلى مصر، ومكث بها ما يناهز ربع قرن ( 784 – 808هـ)، حيث توفي ودفن في مقابرها سنة 1406م.)

[2] (كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، لابن خلدون يُعَدُّ موسوعةً تاريخيةً. يقع في سبع مجلدات. وطبع بعنوان تاريخ ابن خلدون، يتصدر كتاب العبر كتاب المقدمة، واحتوت مقدمة الكتاب على عدة آراء وأفكار جعلت الباحثين يعتبرون الرجل مؤسسا لعلم الاجتماع. واعتبرت لاحقاً مؤلفاً منفصلاً ذا طابع موسوعي إذ يتناول فيه جميع ميادين المعرفة من الشريعة والتاريخ والجغرافيا والاقتصاد والعمران والاجتماع والسياسة والطب. وقد تناول فيه أحوال البشر واختلافات طبائعهم والبيئة وأثرها في الإنسان. كما تناول بالدراسة تطور الأمم والشعوب ونشوء الدولة وأسباب انهيارها مركزاً في تفسير ذلك على مفهوم العصبية.)

[3] سورة الاحقاف، الاية: 15 [4] سورة الانبياء: 11 [5] سورة النحل: 112 [6] سورة الكهف: 59

م. أشرف رشاد

هنا يمكنكم الاطلاع على فنــــــــــــون العمارة المختلفة ولان العمارة هي ام الفنون فسنلقي الضوء على المبادئ الأساسية للهندسة المعمارية مثل: تاريـــــــــــــــــخ وطرز العمارة عبر العصور المختلفة، وأهم النظريات والمدارس المعمارية، وكذلك التصميم المعماري عبر تحليل الأفكار المعمارية للمشاريع المختلفة، وأعمال الديكورات الداخلية والتشطيبات، نسأل الله أن ينفع بهذا العمل ويكون خالصاً لوجهه الكريم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى