الجهر بالدعوة وسياسة التدرج

الجهر بالدعوة وسياسة التدرج في طريق الدعوة:

بعد أن قضى رسول الله ﷺ فترةفي الدعوة السرية، ووجد لها آذاناً صاغية، ورجالاً صالحين من بطون قريش وغيرها، وبعدما أنزل الله تعالى على رسوله ﷺ : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ – وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ – فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ}[1]. فانتقل النبي في الجهر بالدعوة إلى سياسة التدرج فبدأ بدعوة الاقربين، فجمع عشيرته من بني عبد المطلب، وكانوا خمسة واربعين، وصنع لهم طعاماً فلما أكلوا قال لهم: [ يا بني عبد المطلب: إن الله قد بعثني إلى الخلق كافة وبعثني إليكم خاصة، وأنا ادعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فمن يجيبني إلى هذا الامر ويؤازرني على القيام به]، فلم يجبه أحد.

ومع أن الدعوة كانت سريّة فقد سربت أخبارها، ولكن المكّيين في تلك المرحلة لم يتحسسوا من خطر الدعوة، ولعلهم ظنّوا أن حديثها لا يزيد عن أحاديث الكهان والمتألهين أمثال قس بن ساعدة وزيد بن عمرو وأمية بن أبي الخلف وغيرهم ممن تركوا عبادة الأصنام وخرجوا من مكة يبحثون عن الدين الحق، والواقع أن أصل الدعوة كان معلوماً لدى قريش إلا أن تفاصيلها غير معلومة و خاصة ما يخص نبذ آلهتهم.

ثم تدرج النبي من دعوه قومة إلى دعوة جميع بطون قريش، فارتقى النبي ﷺ جبل الصفا ثم أخذ ينادي يا بني فهر، يا بني عدي، يا بني كعب (بطون قريش) وجعل يعدد بطون قريش الاثنى عشر بطنا بطناً، حتى اجتمعوا فقال: [أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا نعم ما جربنا عليك إلا صدقًا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد]. فتكلم القوم كلاماً ليناً غير عمه أبي لهب حيث قال: تبًا لك يا محمد ألهذا جمعتنا؟ فنزل قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}[2].

ثم أتبع ذلك بقوله: خذوا على يديه قبل أن تجتمع عليه العرب، فإن سلمتموه إذن ذللتم. وإن منعتموه قتلتم. فقال أبو طالب: والله لنمنعنه ما بقينا، ثم قال للنبي ﷺ: أمض لما أمرت به، فو الله لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب.

ثم دعا اقرباءة فأجتمعوا إليه فقال: [إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعاً ما غررتكم، والله الذي لا إلا هو أني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحساناً وبالسوء سوءاً، وإنها الجنة أبداً أو لنار أبداً] [3]. بدأرسول الله الجهر بالدعوة فكان يدعوا الناس في الاندية والمحافل وعند المسجد الحرام، يحدثهم ويتلوا عليهم القران، وينتهز موسم الحج ليلتقي بالقبائل يعرض عليهم الاسلام قبيلة قبيلة، فيستجيب من يستجيب ويسخر من يسخر>

ولكنه في الوقت نفسه الذي يدعو فيه قريشاً والقبائل،  كان يربي اولئك الذين قبلوا الدعوة ليبني منهم القاعدة الصلبة المتينة، فكان يجمع المؤمنون في البيوت بشكل سري على شكل مجموعات مغلقة، بعيدة عن أعين قريش، يربيهم ويبني فيهم الثقة بموعود الله ونصر الله. فبدأت دعوة رسول الله تأخذ طريقها إلى النفوس، ويزداد عدد أفرادها يوما بعد يوم، وبدأت الدعوة تنتشر بين مختلف الفئات والطبقات، فكان بين صفوف المؤمنين الرجل الشريف، والسيد المطاع والشيخ الهرم والفتى اليافع، والتاجر الغني والعبد الفقير.

حرب قريش الشاملة على الدعـــــــــوة:

المحور الأول: إستخدام سلطان العشيرة:

المحور الثاني: استخدام اسلوب الترغيب وفق مفاهيم المجتمع القبلي:

قال: ورائي أني سمعتُ قولاً والله ما سمعت مثله قَطُّ، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر، ولا بالكهانة. والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما يقول هذا بشر. يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونَنَّ لقوله الذي سمعت منه نبأٌ عظيمٌ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به. وفي ذهول تام ردوا عليه وقالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه. فأجابهم برأيه متمسكًا: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.

المحور الثالث: الحرب الدعائية[8] واستراتيجية النضر بن الحارث في محاربة الإسلام:

الطفيل بن عمر الدوسي:  سيد قبيلة دوس، كان شاعر مرهف الحس رقيق الشعور، قدم مكة، وقالت له رجال قريش: إنك امرؤ سيد في قومك، وإنا قد خشينا أن يصيبك هذا الرجل ببعض حديثه؛ فإنما حديثه كالسحر، فاحذره أن يدخل عليك وعلى قومك؛ فإنه فرق بين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وابنه، فما زالوا به حتى سد أذنيه بقطن، ومر بالرسول ﷺ وإذا هو قائم يصلي بالمسجد فقام قريبا، فسمع بعض قوله،

ثم فتح أذنيه واستمع للقرأن فما سمع كلاما أحسن منه، وذهب معه إلى بيته ،ولقد أوتي ﷺ سداد الرأي وسرعة الخاطر ووضوح التفكيروحدة الذهن واللباقة وحسن الحديث فكان يسلم له الرجل القوي المعتز بكبريائة وقوتة بعد كلمات قلائل فلما عرض عليه الإسلام أسلم الطفيل وكان إسلامه في السنة العاشرة من بعثه النبي بعد رجوعه من الطائف، وأمره رسول الله  بدعوة قومه إلى الإسلام، فقال: يا رسول الله اجعل لي آية تكون لي عونًا، فدعا له رسول الله ﷺ فجعل الله في وجهه نورًا فقال: يا رسول الله إني أخاف أن يجعلوها مثلة، فدعا له رسول الله  فصار النور في سوطه وكان يضئ في الليلة المظلمة،

ثم بعد فترة قدم الطفيل بن عمرو على رسول الله ﷺ، فقال: ” يا رسول الله إن دوساً قد عصت وأبت،  فادع الله عليها، فاستقبل رسول الله ﷺ القبلة ورفع يديه وقال: [ اللَّهُمَّ اهد دوساً وأت بهم، ثلاثاً].[16]  وقال للطفيل: [اخرج إلى قومك فادعهم وارفق بهم]، قال الطفيل فخرجت أدعوهم حتى هاجر النبي  إلى المدينة. ومضت بدرًا وأحدًا والخندق ثم قدمت بمن أسلم ورسول الله  بخيبر حتى نزلنا المدينة بسبعين أو ثمانين بيتًا من دوس، ولحقنا رسول الله  بخيبر فأسهم لنا مع الناس وقلنا: يا رسول الله اجعلنا في ميمنتك واجعل شعارنا مبرورًا، ففعل. وكان ممن أسلم على يد الطفيل راوية الإسلام أبو هريرة رضي الله عنه.

الخاتمة:

لقد شكّلت مرحلة الجهر بالدعوة وسياسة التدرّج التي اتّبعها الرسول ﷺ الأساس المتين الذي قامت عليه الأمة الإسلامية لاحقًا، حيث تمكن من إعداد نخبة صادقة الإيمان ثابتة المبدأ حملت الرسالة بوعي وقوة. ورغم ما واجهته الدعوة من حرب قريش الشاملة—بدءًا من استغلال سلطان العشيرة، ومرورًا بمحاولات الترغيب والاحتواء وفق الأعراف القبلية، وصولًا إلى الحرب الدعائية التي قادها النضر بن الحارث—فإن هذه الأساليب مجتمعة لم تستطع أن تقف أمام قوة الحق ولا أمام صفاء العقيدة الجديدة التي غيّرت مجرى التاريخ.

وفي المقال القادم، بعنوان من الأزمات تصنع النهضات: دروس من الهجرة الأولى وإسلام القادة، سنواصل استعراض الأساليب الأخرى التي استخدمتها قريش في مواجهة دعوة الإسلام، كما سنتناول بالتفصيل هجرة الحبشة وأثرها، وإسلام عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما، باعتبارهما محطتين مفصليتين في تاريخ الدعوة .


[1] (سورة الشعراء: الاية 214 الى 216)

[2] (المسد: 1)

[3] (الكامل 2 / 27 والسيرة الحلبية (1 / 272)

[4] (سيرة بن هشام، م1 ص: 316)

[5] (السير والمغازي: 154، الكامل في التاريخ: 2/44، البداية والنهاية في التاريخ: 3/123.)

[6] (الروض الأنف (3/ 46). حديث ضعيف رواة ابن اسحاق في السيرة.)

[7] (فصلت: 1-7)

[8] (في عصرنا الحاضر توجد أنواع من الاعلام تخدم بذكاء ودهاء ألواناً شتى من الالحاد والانحراف، بلغت من النجاح حداً كاد يقلب الحق باطلاً ويجعل النهار ليلاً، بينما اجهزة الدعائية الإسلامية وهم كبير لاتقوم بدورها المطلوب)

[9] (الصافات: 36)

[10] (فصلت: 26)

[11] (الفرقان: 5-6)

[12]    (أسس النضر بن الحارث منهجاً متفرداً في محاربة الإسلام ورسوله ودعاته سار على دربه كل أعداء الدعوات عبر العصور، منهج أهل الباطل في الشغب والتشويش على دعاة الحق ورسالة الحق، وبأدوات مازال المبطلون يتواصون بها عبر الأجيال والعصور، فما زال الغناء والرقص والطرب والمعازف والحكايات والأساطير هي أدوات أعداء أمة الإسلام، ونلحظ أن قمة وذروة هذه الهجمة الإلهائية تكون في شهر رمضان المبارك؛ أعظم موسم للطاعة عند المسلمين، حيث ذلك التكدُّس الضخم للأعمال الفنية الملهية عن أي شيء جادٍّ في الحياة اليومية، والملهية عن الدين وغير الدين.)

[13] (الزخرف: 81)

[14] (هـــــــود‏:13)

[15] (البقــــرة‏:23)

[16] (حديث مرفوع عن أَبِي هُرَيْرَةَ- صحيح البخاري : 2937)

للحصول على مزيد من المعلومات برجاء متابعى على المنصات التالية:

الفيسبوكhttps://www.facebook.com/profile.php?id=100088893776257

اليوتيوب: https://www.youtube.com/@ashrafrashad8031

التيك توك:https://www.tiktok.com/@ashraf.r1

الانستاجرام:https://www.instagram.com/ashraf.rashad.58/

Exit mobile version