الهجرة إلى الحبشة

الهجرة إلى الحبشة: أول رحلة نجاة في تاريخ الدعوة الإسلامية

مقدمة

تمثل الهجرة إلى الحبشة واحدة من أهم المحطات المبكرة في السيرة النبوية، بل هي أول تجربة هجرة في الإسلام، اتخذ فيها المسلمون قرارًا مصيريًا بالخروج من مكة بحثًا عن الأمان والعقيدة. وتكشف هذه الهجرة عن حكمة النبي ﷺ في إدارة الدعوة منذ نشأتها، وعن قوة إيمان الصحابة وثباتهم أمام الاضطهاد.

أولًا: أسباب الهجرة إلى الحبشة

1. شدة اضطهاد قريش للمسلمين

بعد الجهر بالدعوة، واجه الصحابة تعذيبًا قاسيًا:

لم تُتح للمسلمين أي مساحة للعبادة أو الأمن داخل مكة.

2. عدم وجود حماية داخلية كافية

رغم حماية بعض الصحابة تحت قبائلهم، كان أغلب المستضعفين بلا حماية، خاصة بعد تزايد الأذى عقب إسلام عمر وحمزة.

3. البحث عن بيئة آمنة للدعوة

رأى النبي ﷺ أن استمرار الدعوة يحتاج ملاذًا آمنًا يمنح المسلمين فرصة للثبات والنمو. ولذلك كان النبي ﷺ يمدحه ويثني عليه، وقال للصحابة المهاجرين إليه: «إن بها ملكًا لا يُظلَم عنده أحد» [1].

4. وفد قريش للنجاشي:

أرسلت قريش وفدأ إلى النجاشي ملك الحبشة، يحمل الهدايا ورسالة من قريش تطالب فيها بأرجاع المهاجرين، تقول السيدة أم سلمة  [2]: لما نزلنا أرض الحبشة، جاورْنا بها خيرَ جارٍ النجاشيَّ، أمِنَّا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئاً نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هداياً مما يُستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم (أي الجلود)، فجمعوا له أدماً كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له هدية.


ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما:«ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم، ثم قدِّما إلى النجاشي هداياه، ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم»، فخرجا حتى قدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار، عند خير جار، فلم يبقَ من بطارقته بطريقٌ إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، ثم إنهما قدَّما هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا له:

«أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم“، ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامَهم النجاشيُّ، فقالت بطارقته حوله: «صدقاً أيها الملك، قومهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما فليردوهم إلى بلادهم وقومهم»، فغضب النجاشي، ثم قال: «لا و الله، لا أسلمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم،

وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني». ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله ﷺ فدعاهم، فلما جاءتهم رسل النجاشي اجتمعوا، فقال بعضهم لبعض: «ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟»، قالوا: «نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا ﷺ كائناً في ذلك ما هو كائن»، فلما جاءوا، سألهم النجاشي فقال لهم: «ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟»، فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب رضى اله عنه، وقد قسم جعفر خطبتة إلى عدة مقاطع فقال له في:

وأمام خطاب وبيان جعفر بدأ النجاشي يقتنع بكلامه ويهتم بأمر هذا الدين الجديد، فسأله قائلاً: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قال جعفر: نعم. قال النجاشي: اقرأه عليَّ، فكر جعفر، ثم هداه الله  إلى اختيار موفق، حيث اختار صدر سورة مريم. التي تتحدث عن عيسى وزكريا ويحيى -عليهم السلام – اختار السورة التي تجذب قلوب السامعين وتأخذ بألبابهم وأفئدتهم، فقرأ جعفر {كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [3].

لم يتحمل النصارى أثر تلك الكلمات المعجزة، فما تمالكوا أن انهمرت دموع الأساقفة، وبكى النجاشي حتى ابتلت لحيته، ولم تقف هدايا قريش حائلا بين كلام الله وبين قلوب السامعين، حينها قال عمرو ابن العاص للنجاشي انهم يقولون في عيسى قولا عظيما فسأل النجاشي جعفر: ماذا تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال جعفر: نقول فيه الذي جاء به نبينا، هو عبد الله ورسوله وروحه، وكلمته القاها إلى مريم العذراء البتول. قال تعالى: {ِ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا، وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا، وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا، وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا، ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ، مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ }[4]،

فضرب النجاشي بيده إلى الارض فأخذ منها عوداً، ثم قال: والله ما عدا عيسى ابن مريم على ما قلت مقدار هذا العود، وقال النجاشي: “إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة“. وإن هذا ليعد إقرارًا منه بصدق الرسالة، وصدق رسول الله r  وصدق جعفر ومن معه. ثم التفت إلى عمرو وعبد الله بن أبي ربيعة وقال لهما: “انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكم أبدًا” وبهذا يكون الوفد الإسلامي قد نجح أعظم نجاح، وأسس مبدأ اللجوء السياسي ووجوب حمايته، وهو مبدأ أقرة الفقة الاسلامي بعد ذلك وجعله حقاً يعطى لكل طالب له، طالما إلتزم بشروطه. ولم ينجح الوفد في إقناع عقل النجاشي وأساقفته فقط، بل تعدى ذلك حتى وصل إلى قلوبهم، وكانت هذه الجولة بكاملها في صف المؤمنين، وهزم سفيرا قريش هزيمة منكرة، وذلك في أول تجربة لقريش مع المؤمنين على أرض محايدة.

هل أسلم النجاشي؟

نعم، النجاشي أصحمة ملك الحبشة أسلم إسلامًا صحيحًا، ومن الأدلة على إسلامه: قال النبي ﷺ: «مات اليوم رجلٌ صالحٌ، فقوموا فصلُّوا على أخيكم أصحمة» [5]، وصلى النبي ﷺ عليه صلاة الغائب يوم موته. لأنه مات في أرض لا يُصلّى عليه فيها، وجمهور العلماء على أن النجاشي يُعدّ من الصحابة لأنه: آمن بالنبي ﷺ في حياته. و لم يره، لكنه صدّقه ونصره، ومن آمن بالنبي ﷺ في حياته يُعد صحابيًا وإن لم يره (مثل مؤمني الجن). وقال ابن حجر في “الإصابة”: “أصحمة النجاشي… له صحبةٌ.”

خاتمــــــــــــة

لقد كانت مواجهة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه مع النجاشي لحظة فارقة في تاريخ الدعوة الإسلامية، تَجَلّى فيها صدق الإيمان، وقوة الحجة، وروعة البيان، وسموّ المبادئ التي جاء بها الإسلام. فجعفر لم يدخل مجلس النجاشي مدافعًا فحسب، بل دخل رسول حق يحمل أخلاق النبوة، ويعكس نور الرسالة، متحديًا كيد قريش بالحكمة والوضوح، لا بالصوت العالي ولا بالمناورة السياسية.

ولم يكن نجاح المسلمين في تلك المناظرة نتيجة البلاغة وحدها، بل كان ثمرة العدالة الفطرية التي تمتع بها النجاشي، تلك العدالة التي جعلته لا يبيع ضميره بهدايا قريش، ولا يخضع لضغط بطارقته، بل يستمع أولًا، ويحكم بما يمليه عليه الحق. فجاء قراره حاسمًا: “اذهبوا، فوالله لا أسلمهم إليكم أبدًا.”

وبذلك سجّل النجاشي موقفًا نادرًا في التاريخ، جمع بين القيادة الأخلاقية، والجرأة السياسية، والاحترام العميق للإنسان وحقوقه، ليصبح أول من أسّس—بحكمه العادل—لمبدأ اللجوء السياسي وحماية المستضعفين، قبل أن تنصّ عليه القوانين الحديثة بقرون طويلة.

خرج وفد قريش مهزومًا، بينما بقي المسلمون آمنين في أرض الحبشة، يعبدون الله دون خوف، ويواصلون رسالتهم بثبات. وهكذا أثبتت هذه الحادثة أن قوة الدعوة لا تكمن في العدد أو السلاح، بل في صدق الكلمة وعدالة المبدأ ونبل الأخلاق.

وتظل الهجرة إلى الحبشة درسًا خالدًا في:

إنها قصة تُروى، لا لأنها حدث تاريخي، بل لأنها شهادة حيّة على انتصار الإيمان على الظلم، والعقل على التهوّر، والحق على الباطل.

المراجع:

[1] رواه أحمد والبيهقي.

[2] (عن أم سلمة المحدث:أحمد شاكر المصدر:مسند أحمد الجزء أو الصفحة:3/180 ).

[3] (مريم: 1-4).

[4] (مريم: 30-35).

[5] رواه البخاري (1333) ومسلم (951).

للحصول على مزيد من المعلومات برجاء متابعى على المنصات التالية:

الفيسبوكhttps://www.facebook.com/profile.php?id=100088893776257

اليوتيوب: https://www.youtube.com/@ashrafrashad8031

التيك توك:https://www.tiktok.com/@ashraf.r1

الانستاجرام:https://www.instagram.com/ashraf.rashad.58/

Exit mobile version