الهجرة النبوية وبداية الدولة الإسلامية
المقدمــــــة:
شهدت الدعوة الإسلامية في مكة سنوات طويلة من الحصار والاضطهاد امتدت لثلاثة عشر عامًا، عانى فيها المسلمون أشد أنواع العذاب النفسي والاجتماعي والسياسي. وفي ظل هذا الواقع القاسي جاءت بيعة العقبة لتفتح باب الأمل، حين بايع الأنصارُ رسولَ الله ﷺ على النصرة والحماية وإقامة الدولة في المدينة. وولدت حينئذ أول مؤسسة دستورية في الإسلام: النقباء الاثنا عشر، الذين يمثلون نواة التنظيم السياسي للدولة القادمة.
ومع الهجرة المباركة من مكة إلى المدينة، انتقلت الدعوة من مرحلة الضعف والاستضعاف إلى مرحلة القوة والتنظيم، لتبدأ واحدة من أعظم التحولات في تاريخ الأمة: تأسيس أول دولة تقوم على الوحي، وتُجسّد مبادئ العدل والتوحيد، وتجمع الناس على أساس الإيمان لا القبيلة.
استقبال الأنصار لرسول الله ﷺ
وصل موكب رسول الله ﷺ إلى أرض المدينة في ضحى يوم الاثنين، الثاني عشر من ربيع الأول، من السنة الأولى للهجرة، فاستقبله أهل المدينة استقبالًا عظيمًا لا يشبهه استقبال. ارتفعت أصواتهم بالتكبير حتى ملأت أرجاء المكان، فقد أدركوا أن لحظة تاريخية قد بدأت، وأن معهم—وبقيادته ﷺ—سينطلق عهد جديد، سيكون لهم فيه شرف وضع الأسس التي سيقوم عليها بناء الدولة الإسلامية.
لقد اكتملت في هذا اليوم الدائرة الثانية من دوائر الدعوة؛ دائرة الدولة التي ستحمي المسلمين أفرادًا وجماعات، وتمنح الإسلام قوة تدفعه بخطوات حاسمة وسريعة نحو النصر والتمكين. لذلك لم يكن غريبًا أن يخرج الأنصار بأسلحتهم لاستقبال النبي ﷺ، فهؤلاء هم الجنود الذين سينضمون إلى إخوانهم المهاجرين، ليبنوا معًا دولة ناشئة، تعتمد على قوة العقيدة والسلاح، وتؤسس حضارة تُكرم الإنسان في كل زمان ومكان، وتضعه في الموضع الذي أراده الله له حين استخلفه في الأرض ومنحه السيادة عليها.
ويروي عبد الله بن سلام—وكان من أحبار اليهود قبل إسلامه—قائلًا:
“لما قدم النبي ﷺ المدينة انطلق الناس إليه مسرعين، فلما رأيت وجهه علمت أنه ليس بوجه كذاب. وكان أول ما سمعته يقوله: يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصَلّوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام.”
وكان كل واحد من الأنصار يتمنى لو نال شرف استضافة النبي ﷺ في بيته. فكلما مرّت الناقة التي تحمله أمام دارٍ خرج أهلها يتعلقون بزمامها يرجون أن ينزل عندهم. لكن النبي ﷺ كان يردّهم بلطف:
“دعوا الناقة فإنها مأمورة.”
حتى بركت الناقة في أرض يتيمين من بني النجار، مقابل دار أبي أيوب الأنصاري، فقال النبي ﷺ:
“هذا—إن شاء الله—المنزل.”
فاشترى المكان منهما بعشرة دنانير، ثم حمل أبو أيوب رحل النبي ﷺ إلى بيته مسرورًا.
وكان منزل أبي أيوب من طابقين، فنزل النبي ﷺ في الطابق السفلي، فارتبك أبو أيوب وقال:
“يا نبي الله، والله لأكره أن أكون فوقك، فانتقل أنت إلى العلو، وننزل نحن إلى السفل.”
لكن النبي ﷺ طمأنه قائلًا:
“يا أبا أيوب، إنه أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في أسفل البيت.”
وكان أبو أيوب وزوجته مثالًا للكرم والتعظيم لرسول الله ﷺ، فكانا إذا قدّما الطعام لا يأكلان منه حتى يأكل النبي ﷺ أولًا، ثم يأكلان من حيث وضعت يده الشريفة طلبًا للبركة وحبًا له.
لقد كانت الهجرة نقلة مفصلية؛ فهي التي هيأت الظروف لنشوء الدولة الإسلامية التي جاءت عالمية منذ بدايتها—عالمية في وثائق تأسيسها، وفي أصولها ومبادئها، وعالمية في تكوينها البشري. فقد ضمت العرب من قريش ويثرب واليهود الذين كانوا يعيشون في المدينة، كما ضمت سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي، وأصبح هؤلاء رموزًا لشعوب وأمم ستدخل لاحقًا في الإسلام خلال سنوات قليلة.
وقد شاءت إرادة الله سبحانه أن تكون الهجرة بداية التحول الحاسم في تاريخ ذلك الجيل من الرجال والنساء، التحول الذي بدأت معه ملحمة بناء أول مجتمع يحمل رسالة السماء ويقيم دولة تستظل بنورها، وتقوم سدًا منيعًا أمام موجات الشرك والجاهلية. كانت الهجرة انتقالًا من:
- العبودية إلى الحرية.
- عالم قبلي تحكمه أوهام الوثنية وتعبث به التقاليد الرجعية، إلى عالم يستنير بنور التوحيد ووحدة المصير والعمل الجاد لبناء مجتمع متحضر.
- ظلمة الجهل وعزلة الصحراء إلى حضارة تنبض بالعلم والعدل والسماحة.
وقد يتساءل متسائل: لماذا لم يبدأ رسول الله ﷺ بتأسيس الدولة في مكة؟
والجواب أن مكة لم تكن مهيأة لذلك؛ فقد واجهت الرسالة العداء من أول يوم، وأُغلقت أمام النبي ﷺ كل السبل، فلا يمكن ولا يعقل قيام دولة في بيئة معادية كهذه. أما في المدينة فالوضع مختلف تمامًا؛ فالمناخ غير المناخ، والناس غير الناس، وقد أعلن أهل المدينة استعدادهم الكامل—بمحض إرادتهم—للاستجابة للرسالة، والإيمان بها، والدفاع عنها وعن صاحبها مهما كان الثمن. لذلك لم يُضِع رسول الله ﷺ وقتًا هناك، وبدأ فور وصوله في وضع اللبنات الأولى لبناء الدولة.
لقد قامت هذه الدولة لحراسة الدين وتنظيم شؤون الدنيا وفق أحكام الدين. كانت إنجازًا إنسانيًا أقامه البشر، لكنها إسلامية الحاكمية لأنها تستمد تشريعاتها من شريعة الله. جاءت رسالة محمد ﷺ متممة لرسالات نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، لكن أحدًا من هؤلاء الأنبياء—عليهم السلام—لم يُقم دولة تُجسّد الدين في صورة عمران بشري، بينما كانت إقامة الدولة خاصية فريدة من خصائص الرسالة المحمدية.
اكتملت للدولة الإسلامية في المدينة كل مقومات الدولة حسب معايير عصرها، فكان على رأسها رسول الله ﷺ المعصوم فيما يبلغ عن الله، والذي يدير شؤون الدولة باجتهاد محكوم بإطار الشريعة. فالتبليغ عن الله فيه الطاعة الكاملة، أما سياسة الدولة فتُدار بالشورى ضمن ثوابت الدين.
وتشير المصادر التي وثقت معالم هذه الدولة الأولى إلى وجود مؤسسات ووظائف إدارية واضحة، مثل:
- النقباء الاثني عشر
- مجلس الشورى
- ولايات السقاية والحجابة والكتابة والترجمة والخاتم
- إمارة الحج
- تعليم القرآن
- تعليم القراءة والكتابة
- تعليم الفقه
- إمامة الصلاة
- الأذان
- السفراء
- الشعراء والخطباء
- أمراء الجند والقتال
- كتاب الجيش
- صاحب اللواء
- ولاة الأقاليم
- القضاة
- عمال الجباية والخراج
- عمال الزكاة والصدقات
- حراسة المدينة
- المستخلفون عليها عند خروج رسول الله ﷺ للجهاد
وغير ذلك من الأعمال والوظائف التي شكلت هيكل الدولة الناشئة.
وبذلك يمكن القول: إن الهجرة كانت انتقالًا بالدعوة من مرحلة الاستضعاف إلى مرحلة التنظيم الإداري والسياسي، وقد خطا رسول الله ﷺ من خلالها خطوات عملية عظيمة سنعرض منهجه فيها بتفصيل في الفقرات القادمة.
الفصل الاول: الجانب الاجتماعي والدعوي.
الفصل الثاني: الجانب السياسي
الفصل الثالث: جانب العلاقات الدولية
الفصل الرابع: الجانب الجهادي في حياة الرسول r.
الخاتمــــــة:
إن الهجرة النبوية لم تكن مجرد انتقال جغرافي من مكة إلى المدينة، بل كانت بداية عهد جديد شهد تأسيس أول مجتمع إسلامي متكامل يقوم على الشورى والعدل والرسالة. ومن خلال هذه الهجرة وُضعت قواعد الدولة في صورتها الأولى، وتحددت مسؤولياتها ومؤسساتها السياسية والإدارية والعسكرية والقضائية. ومع النقباء الاثني عشر ومجلس الشورى وعمّال الدولة وولاة الأقاليم، بدأت معالم الإدارة الإسلامية تتشكل وتترسخ.
لقد نقلت الهجرة الدعوة من دائرة الفردية إلى دائرة الدولة، ومن مرحلة الاستضعاف إلى مرحلة التمكين، ومن مجتمع تحكمه العصبية الجاهلية إلى مجتمع تُنيره مبادئ السماء. وفي الفقرات القادمة سننتقل إلى دراسة منهج النبي ﷺ في تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، وكيف أسس هذا البناء العظيم الذي ظل نموذجًا ربانيًا خالدًا في تاريخ الإنسانية.
الفيسبوك: https://www.facebook.com/profile.php?id=100088893776257
اليوتيوب: https://www.youtube.com/@ashrafrashad8031
التيك توك:https://www.tiktok.com/@ashraf.r1
الانستاجرام:https://www.instagram.com/ashraf.rashad.58/
