طريق الهجرة يبدأ من الطائف
طريق الهجرة يبدأ من الطائف
أولاً: رحلة رسول الله ﷺ إلى الطائف: منعطف الدعوة بين البحث عن النصير وبداية نصرة الأنصار
لماذا اختار النبي ﷺ الطائف؟ كان اختيار النبي ﷺ للطائف بدايةً لرحلاته الدعوية خارج مكة اختيارًا استراتيجيًا بامتياز، رغم أن نتائجها الظاهرية كانت مؤلمة. وقد كان وراء اختياره للطائف عدة أسباب مهمة:
- العداء التاريخي بين قريش والطائف:
حاولت قريش مرارًا ضم الطائف إلى مكة لأنها تمثل عمقًا استراتيجيًا مهمًا، مما دفع أهل الطائف لمعاداة قريش، حتى إنهم أرسلوا “أبا رغال” ليكون دليلًا لأبرهة وجيشه في حادثة الفيل.
أراد النبي ﷺ استثمار هذا الخلاف التاريخي ليبحث عن نصرة وحماية من ثقيف وهوازن، تعين الدعوة ضد ظلم قريش واضطهادها. - قرب الطائف من مكة:
فكانت أقرب مدينة كبيرة إلى مكة، والتحرك الحكيم في الدعوة يبدأ بالأقرب فالأقرب، خصوصًا مع الحاجة لإيجاد قاعدة آمنة للدعوة بعد تصاعد اضطهاد قريش. - طبيعة الخروج إلى الطائف:
خرج النبي ﷺ إليها ماشيًا على قدميه ومعه فقط مولاه “زيد بن حارثة” ليتجنب انتباه قريش ومحاولتها منعه.
تقع الطائف على مسافة 65 ميلاً جنوب شرق مكة.
ثانيًا: دعوة النبي ﷺ لأشراف ثقيف
عندما وصل النبي ﷺ إلى الطائف مكث فيها عشرة أيام يدعو كبار القوم إلى الإسلام، ولكن الطائف لم تكن أحسن حالا من مكة، فقد كانوا أبعد ما يكونون عن التفكير في عقيدة أو دين، كانوا قوماً أصحاب إقطاع كبير غني بالزروع والخيرات، ورفض أهلها قبول دعوته، وها هو قد قصد ثلاثة إخوة من سادات ثقيف: عبد ياليل، ومسعود، و حبيب بن عمرو بن عمير، فجلس إليهم يدعوهم إلى الله وكلمهم في نصرتهم للإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه،لكنهم استقبلوا النبي ﷺ بأسوأ ردود:
- قال أحدهم: “أنه يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسله!”
- والآخر قال: “أما وجد الله أحدًا يرسله غيرك؟”
- والثالث قال: “لئن كنت رسولًا فأنت أعظم خطرًا من أن أكلمك، وإن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلمك.”
ثالثًا: أذى ثقيف للنبي ﷺ
قام رسول الله ﷺ من عندهم وقد يئس منهم وقال لهم: إن فعلتم ما فعلتم فاكتموا على، فلم يفعلوا، بل إنهم سَلَّطوا عليه صبيانهم وسفهاءهم فوقفوا على طول طريق الرسول يسبونه، ويقذفونه بالحجارة هو وزيد بن حارثة الذي كان يدافع عن رسول الله بنفسه ويصد الحجارة، حتى جرح في رأسه، وسال الدم من قدم الرسول.
رابعًا: دعاء الطائف العظيم
عند شدة الألم رفع النبي ﷺ يديه إلى السماء ودعا بدعائه المشهور، الذي يمثل أرقى معاني التوكل والصبر:
اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟! إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل علي غضبك، أو أن ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك] [1].
هكذا خرج الرسول من مكه إلى الطائف بحثاً عن نصر معنوى يدفع عن كاهله الضغوط النفسية والبدنية المتتالية، ويعيد به الثقة لأتباعه الصابرين على البلايا والفتن، فلما جاءت نتيجة الرحلة على ما جرى اهتم الرسول هماً لم يمر به من قبل قط.
خامسًا: لقاء النبي ﷺ بعدّاس وإسلامه
لجأ النبي ﷺ إلى بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة، فجلس فيه يريح جسده المتعب لبعض الوقت، فلما رأياه رق قلبهما فأرسلا غلامهما “عدّاس” بعنقود عنب. فتناوله النبي ﷺ قائلا: بسم الله، فتعجب عداس، وقال: إن هذا الكلام لا يقوله أهل هذه البلاد، فسأله الرسول عن دينه وبلده، فقال عداس: أنا نصراني من أهل نينوى، فقال له رسول الله:
وعندما أخبره أنه من نينوى، قال له النبي ﷺ: “من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟”
فقال عداس متعجبًا: وما يدريك ما يونس بن متى؟! فقال: [ذلك أخي كان نبيًّا وأنا نبي] فانكبَّ عداس على رسول الله يقبل رأسه ويديه واسلم عداس.
سادسًا: أشد يوم مرّ بالنبي ﷺ
أن حادثة الطائف قد تفردت دون غيرها من سائر الأحداث الجسام التى تعرض لها النبى ﷺ أنها جمعت بين الألم النفسى والآذى البدنى، بل إن الآلم النفسى قد أستغرق بفكر وعقل الرسول ﷺ بعد خروجه من الحائط كئيبًا محزونًا كسير القلب، حتى أنه لم يستفق إلا فى قرن الثعالب، أى أنه قد غير مسار رحلة العودة من حيث لا يدرى، لأن قرن الثعالب على طريق نجد شرق مكة، ولما بلغ قرن المنازل بعث الله إليه ملكين من أشد وأقوى الملائكة وهما جبريل ومعه ملك الجبال، يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة.
سابعًا: ملك الجبال وعرضه على النبي ﷺ
روت عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبى ﷺ : هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: (لقيت من قومكِ ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة بالطائف.
وفي هذا اليوم جاءه جبريل ومعه ملك الجبال وقال: “إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت.”
لكن النبي ﷺ قال: “بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده.”
ثامنًا: استماع الجن للقرآن وإيمانهم
عندما وقف النبي ﷺ يصلي الفجر في طريق عودته، استمع إليه نفر من الجن، فرجعوا إلى قومهم مؤمنين، كما أخبر القرآن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ…}[2].
تاسعًا: دخول النبي ﷺ مكة في جوار المطعم بن عدي
نظرًا لخطورة دخوله مكة، وأن قريشًا كانت تبحث عنه، أرسل إلى المطعم بن عدي وطلب منه الجوار.
فأجابه المطعم، وخرج هو وبنوه بالسلاح وأدخلوا النبي ﷺ مكة حمايةً له.
فلما سُئل: “أمجير أنت أم تابع؟”
قال: “بل مجير.”
فقالوا له: “إذن لا يُخفر جوارك.”
2. عرض الدعوة على القبائل والأفراد
جاء الإسلام ليُعبّر عن وجوده في عالم الناس عبر ثلاث دوائر متداخلة: دائرة الإنسان، ثم الدولة، ثم الحضارة. وقد نجح الإسلام في مكة في تأسيس دائرة الإنسان، فآمن الأفراد وبدأ تشكّل النواة الأولى للجماعة المؤمنة. غير أن العوائق السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية حالت دون انتقال الدعوة إلى الدائرة الثانية، وهي دائرة الدولة.
فمن دون دولة تحميها، تظل دائرة الإنسان نواة مكشوفة، بلا جدار يحميها من الضغوط الخارجية وقوى العداء. ولا يستطيع الفرد أو الجماعة، في ظل غياب الدولة، أن يكملا مهمتهما إلى النهاية. من هنا أدرك المسلمون ضرورة السعي الجاد نحو إقامة الدولة، وإلا تعرضوا للضياع.
ومنذ اللحظة التي تيقن فيها رسول الله ﷺ أن مكة لا تصلح لقيام الدولة، بعد يأسه من إيمان قريش، ثم ثقيف في الطائف، بدأ التفكير الجاد في الهجرة. فمكة، بواديها المحاصر بالجبال، وكعبتها التي تعج بالأوثان، لم تعد قادرة على أن تكون الوطن الحاضن للدعوة.
عندها أخذ الرسول ﷺ يتجه إلى الأسواق الكبرى، مثل سوق عكاظ وذي المجنة، حيث تجتمع القبائل العربية للتجارة وسماع الشعر، فكان يعرض نفسه على القبائل ويدعوهم إلى الله، قائلاً:
«يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأن تؤمنوا بي وتصدقوني، وتمنعوني حتى أبلغ دين الله».
كان يخرج كل يوم يدعو الناس لعبادة الله، لكن القبائل التي عرض عليها الدعوة، مثل بني كندة، وبني عامر بن صعصعة، وبني حنيفة وغيرها، لم تمد يدها لمبايعة رسول الله ﷺ، ولم ترحب بهجرته إلى أرضها وديارها. فقد أعمت الوثنية الجاهلية قلوبهم وأبصارهم عن الشرف العظيم الذي كان يمكن أن ينالوه لو بايعوا.
وكان رسول الله ﷺ يعود من هذه المحاولات دون نتيجة، غير أن ذلك لم يترك في نفسه أثرًا لليأس، بل ظل هو هو: محمد ﷺ المجاهد في سبيل دعوته، الصابر في مواجهة الصعاب. ومن يصبر على الشدائد ويغالبها ولا يستسلم لها، فحريٌّ به أن يبلغ النصر ويصل إلى ما يريد.
3. بداية إسلام الأنصار
مضى رسول الله ﷺ في بحثه عن الطريق الذي سيهاجر إليه هو وأصحابه، حتى جاءت نقطة التحول الحاسمة، وبصيص النور الذي أطل من بين ركام الظلمات. فقد قيّض الله له نفرًا من أهل يثرب، كان لهم دور عظيم في نصرة الإسلام.
ففي السنة الحادية عشرة من البعثة (620م)، وأثناء موسم الحج في شهر ذي الحجة، التقى رسول الله ﷺ عند العقبة بستة نفر من أهل المدينة، وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث، ورافع بن مالك، وقطبة بن حديدة، وعقبة بن عامر، وسعد بن ربيع.
دعاهم الرسول ﷺ إلى الله عز وجل، وعرض عليهم مبادئ الإسلام في وضوح وسماحة وعدل ومساواة. فقال بعضهم لبعض:
«تعلمون والله يا قوم، إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه».
فاستجابوا لدعوته، وأسلموا، وكان هذا اللقاء أول مواكب الخير التي هيأت للإسلام أرضًا جديدة وملاذًا آمنًا. وقد شكّل هؤلاء النفر النواة الأولى للدعوة في المدينة، وأخذوا على أنفسهم عهد نشر الإسلام بين أهليهم وأقوامهم.
عادوا إلى يثرب يحملون رسالة الإسلام، فما لبث أن شاع ذكر رسول الله ﷺ في بيوت الأنصار، حتى لم تبق دار من دورهم إلا وفيها حديث عنه. وساعد على ذلك أن الأوس والخزرج كانوا في ذلك الوقت أصحاب الكلمة العليا في المدينة، وقد أصبحت لهم السيادة، بينما كان اليهود في موقف التابع.
وكان من شأن تحالف النبي ﷺ مع الأوس والخزرج، ودخولهم في دينه، أن يؤمّن له الحماية، وألا يخشى معارضة اليهود. كما كان بوسع الأوس والخزرج أن يفتحوا المدينة لمن يشاؤون دون خوف من اعتراض، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة في تاريخ الدعوة الإسلامية.
الخاتمة
طريق الهجرة يبدأ من الطائف: وفي ختام هذه المرحلة المهمة من السيرة النبوية، يتضح لنا أن رحلة النبي ﷺ إلى الطائف وما صاحبها من ألم وصبر، ثم خروجه لعرض الإسلام على القبائل والأفراد في مواسم الحج، كانت تمهيدًا ربانيًا لانتقال الدعوة من مرحلة الاضطهاد والعزلة إلى مرحلة التمكين والانطلاق. فقد بدأ نور الإسلام يشعّ شيئًا فشيئًا في يثرب، وظهر أول بذور النصرة على يد الأنصار الذين فتح الله قلوبهم للحق، ليبدأ بذلك التحول الأكبر في مسار الدعوة.
وسيأتي المقال التالي بيعة العقبة الأولى والثانية ليتناول بالتفصيل:
- بيعة العقبة الأولى وكيف كانت أول التزام جماعي من أهل المدينة بنصرة النبي ﷺ.
- بيعة العقبة الثانية التي أرست أسس الدولة الإسلامية الأولى.
- دور مصعب بن عمير رضي الله عنه، أول سفير في الإسلام، وكيف ساهم في نشر الدعوة في يثرب وإعداد الأرض للهجرة.
المصادر:
– ابن هشام، السيرة النبوية، ج2.
– الطبري، تاريخ الأمم والملوك.
– ابن كثير، البداية والنهاية، ج3
[1] (الراوي:عبدالله بن جعفر بن أبي طالب المحدث:الألباني المصدر:ضعيف الجامع الجزء أو الصفحة:1182)
[2] [الجن: 1–2]
للحصول على مزيد من المعلومات برجاء متابعى على المنصات التالية:
الفيسبوك: https://www.facebook.com/profile.php?id=100088893776257
اليوتيوب: https://www.youtube.com/@ashrafrashad8031
التيك توك:https://www.tiktok.com/@ashraf.r1
الانستاجرام:https://www.instagram.com/ashraf.rashad.58/



