عندما تتحوَّل الهندسة إلى فن حي: قراءة تحليلية في ناطحة السحاب الجذع المتحوّل (Turning Torso) بمالمو
مقدمة: تطور ناطحات السحاب ودورها في تشكيل المدن
لقد شكّلت ناطحات السحاب منذ بداية القرن العشرين رموزًا للتقدم العمراني والهندسي. فهي تعكس قدرة المدن على تحدّي الجاذبية وتحويل السماء إلى أفق معماري. بالإضافة إلى ذلك، بدأت الرحلة بالمباني المكتبية في شيكاغو ونيويورك، حيث كان الهدف الرئيسي زيادة كثافة المساحات على الأرض. بعد ذلك، ظهرت التصاميم الحديثة التي جمعت بين الجمالية والوظيفة، وصولًا إلى المباني المعاصرة التي توظف الفن والهندسة والتقنيات المتقدمة.
مع كل جيل جديد، ارتفع مستوى التعقيد المعماري والتقني. في المقابل، بدأت المباني تتجاوز العمودية التقليدية لتتبنى أشكالًا ديناميكية مبتكرة. وهنا يبرز دور المهندسين المعماريين الذين يحوّلون المبنى إلى تجربة فنية تعكس الثقافة والبيئة المحيطة. لذلك، يمكن اعتبار مشروع الجذع المتحوّل (Turning Torso) في مالمو مثالًا واضحًا على هذا التحوّل، إذ يجمع بين الإبداع الفني والتكنولوجيا المتقدمة ليقدّم نموذجًا فريدًا للعمارة السكنية المعاصرة في أوروبا.
الفكرة والتصميم المعماري
صمّم البرج المعماري الإسباني سانتياغو كالاترافا، المعروف بدمجه بين النحت والهندسة، الجذع المتحوّل مستوحى من جسم الإنسان يلتف حول نفسه. التجسيد المعماري لهذه الفكرة يتم عبر تسعة مكعبات متتابعة، كل منها يحتوي على خمسة طوابق. علاوة على ذلك، الطوابق توضع بشكل لولبي حول محور مركزي صلب، لتكوّن التواءً بزاوية 90 درجة عند القمة.
لا يمثل البرج مجرد إنجاز هندسي، بل أيضًا قصيدة معمارية. فهو يحاكي الجسد البشري ويحوّل الحركة إلى شكل ثابت ينبض بالحياة. كما تعكس الفكرة فلسفة كالاترافا، حيث الحركة جزء من الثبات، ويجمع الالتفاف الديناميكي بين الطاقة والمرونة مع الانسجام بين الشكل والوظيفة.
الموقع والسياق الحضري
يقع الجذع المتحوّل غرب ميناء مالمو، بالقرب من جسر أوريسوند الذي يربط السويد بالدنمارك. علاوة على ذلك، اختير الموقع ضمن منطقة صناعية سابقة متدهورة. في هذا الإطار، كان الهدف إعادة تأهيل المنطقة إلى حي سكني حديث، يضم مرافق ترفيهية ومحال تجارية، مع سهولة الوصول إلى وسط المدينة وشاطئ ريبيرسبورغ.
إضافةً إلى ذلك، يخلق الموقع نقطة محورية في الأفق الحضري للمدينة. فهو يربط بين الماضي الصناعي والتحوّل الحضري العصري، ما يجعل البرج رمزًا للتجديد والهوية العمرانية الجديدة لمالمو.
النظام الإنشائي والاستراتيجيات الهيكلية
يعتمد الجذع المتحوّل على أسطوانة مركزية من الخرسانة المسلحة بقطر 10.6 أمتار، تعمل كعمود فقري يضم المصاعد والخدمات التقنية. بينما تتصل به الهياكل الأفقية لكل طابق، وتدور كل طابق 1.6 درجة لتكوّن الشكل اللولبي.
الهياكل الخارجية الفولاذية تتألف من 20 أنبوبًا أفقيًا و18 قطريًا، موزعة على أعلى المكعبات لدعم الالتواء وتحويل الإجهادات إلى القلب الخرساني. وزن هذه العناصر يصل إلى حوالي 820 طنًا. وعلاوة على ذلك، صُنعت وجُمعت بعناية لضمان استقرار طويل الأمد مع أقل صيانة ممكنة.
الواجهة والتقنيات المعمارية
واجهة البرج تعكس التواء المبنى الديناميكي. فهي تتكوّن من 2800 لوحة ألمنيوم و2250 نافذة زجاجية. بالإضافة إلى ذلك، تختلف زوايا ميل النوافذ بين الداخل والخارج حسب اتجاه المبنى. هذا يتطلب دقة عالية في التركيب لضمان العزل الحراري والمائي وفق المعايير السويدية.
كما تمتد على طول الواجهة منصات للصيانة والتنظيف، ما يسهل الوصول إلى كافة النوافذ. وعليه، يعكس هذا التصميم الاهتمام بالتشغيل والصيانة المستدامة للبناء.
الأداء البيئي والاختبارات التقنية
تم اختبار المبنى في نفق الرياح بجامعة أونتاريو في كندا. أظهرت النتائج أن أقصى تذبذب للبرج في أعلى الطوابق لا يتجاوز 30 سم، ما يؤكد صحة التصميم الإنشائي. بالإضافة إلى ذلك، جهّز البرج بأنظمة مكافحة حرائق متقدمة، تشمل شبكة رش آلي ومصاعد للطوارئ، وتقسيم المبنى إلى قطاعات لتقليل انتشار النيران.
الوظائف والمساحات الداخلية
يستوعب الجذع المتحوّل 147 شقة سكنية بمساحات تتراوح بين 45 و190 م²، موزعة على المكعبات العليا. بينما تحتضن المكعبات الأولى مساحات مكتبية وتجارية تبلغ حوالي 4000 م². الطابقان العلويان مخصصان لقاعات الاجتماعات والمؤتمرات، مطلة على أفق كوبنهاغن، ومجهزة للاستخدامات الرسمية والسياسية.
المصاعد المخصصة للسكان والمكاتب تعمل بسرعة تصل إلى 5 م/ث (18 كم/س)، وتستغرق الرحلة من القاعدة إلى القمة 38 ثانية. وبالتالي، يوفر هذا التصميم راحة وكفاءة عالية.
أرقام ومعطيات أساسية
- الارتفاع: 190 مترًا
- عدد الطوابق: 54 طابقًا
- التقسيم الإنشائي: 9 مكعبات × 5 طوابق
- زاوية الالتفاف: 90 درجة
- عدد الشقق: 147 شقة
- مساحة كل طابق: 400 م²
الجوائز والأثر العالمي
منذ افتتاحه في 27 أغسطس 2005، حاز الجذع المتحوّل على عدة جوائز دولية، أبرزها:
- MIPIM كأفضل مبنى سكني في العالم، فرنسا 2005
- اختيار MoMA ضمن أجمل 25 ناطحة سحاب في العالم
- FIB Award 2006 للهياكل الخرسانية المميزة، إيطاليا
تعكس هذه الجوائز التقدير العالمي للمزيج بين الفن والهندسة. فعندما تتحوَّل الهندسة إلى فن حي يشير إلى قدرة البرج على إحداث تأثير بصري وحضري مستدام.
خاتمة وتحليل نقدي
يمثل الجذع المتحوّل نموذجًا متقدمًا للهندسة المعمارية المعاصرة. فهو يحقق التوازن بين الشكل الفني والوظيفة الحضرية. كما يعيد البرج تعريف مفهوم ناطحة السحاب السكنية من مجرد ارتفاع عمودي إلى تجربة ديناميكية متحركة. وبالتالي، يعكس هوية المدينة ويؤثر في تصور المشهد العمراني.
يجمع المشروع بين الإبداع الفني، الدقة التقنية، الاستدامة الإنشائية، والتكامل مع البيئة الحضرية. لذلك، يُعد دراسة حالة فريدة للباحثين والمهندسين المعماريين.
قائمة المراجع والمصادر
- سانتياغو كالاترافا، «الجذع المتحوّل (Turning Torso)»، تقرير HSB السويد، 2005
- متحف الفن الحديث MoMA، «أجمل 25 ناطحة سحاب في العالم»، نيويورك، 2006
- مجلة Architectural Record، عدد يوليو 2005، «Turning Torso: تصميم هندسي وفني»
- الاتحاد الدولي للخرسانة FIB، «جوائز الهياكل الخرسانية المميزة 2006»، نابولي، إيطاليا
- موقع سانتياغو كالاترافا الرسمي، www.calatrava.com، 2025
وبكدة نكون وصلنا لنهاية حلقتنا النهاردة عن: عندما تتحوَّل الهندسة إلى فن حي
في الحلقة القادمة والي هنتحدث فيها عن: فانتظرونا.
المراجع:
للحصول على مزيد من المعلومات برجاء متابعى على المنصات التالية:
الفيسبوك: https://www.facebook.com/profile.php?id=100088893776257
اليوتيوب: https://www.youtube.com/@ashrafrashad8031
التيك توك:https://www.tiktok.com/@ashraf.r1
الانستاجرام:https://www.instagram.com/ashraf.rashad.58/
