الجهر بالدعوة وسياسة التدرج
الجهر بالدعوة وسياسة التدرج في طريق الدعوة:
بعد أن قضى رسول الله ﷺ فترةفي الدعوة السرية، ووجد لها آذاناً صاغية، ورجالاً صالحين من بطون قريش وغيرها، وبعدما أنزل الله تعالى على رسوله ﷺ : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ – وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ – فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ}[1]. فانتقل النبي في الجهر بالدعوة إلى سياسة التدرج فبدأ بدعوة الاقربين، فجمع عشيرته من بني عبد المطلب، وكانوا خمسة واربعين، وصنع لهم طعاماً فلما أكلوا قال لهم: [ يا بني عبد المطلب: إن الله قد بعثني إلى الخلق كافة وبعثني إليكم خاصة، وأنا ادعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فمن يجيبني إلى هذا الامر ويؤازرني على القيام به]، فلم يجبه أحد.
ومع أن الدعوة كانت سريّة فقد سربت أخبارها، ولكن المكّيين في تلك المرحلة لم يتحسسوا من خطر الدعوة، ولعلهم ظنّوا أن حديثها لا يزيد عن أحاديث الكهان والمتألهين أمثال قس بن ساعدة وزيد بن عمرو وأمية بن أبي الخلف وغيرهم ممن تركوا عبادة الأصنام وخرجوا من مكة يبحثون عن الدين الحق، والواقع أن أصل الدعوة كان معلوماً لدى قريش إلا أن تفاصيلها غير معلومة و خاصة ما يخص نبذ آلهتهم.
ثم تدرج النبي من دعوه قومة إلى دعوة جميع بطون قريش، فارتقى النبي ﷺ جبل الصفا ثم أخذ ينادي يا بني فهر، يا بني عدي، يا بني كعب (بطون قريش) وجعل يعدد بطون قريش الاثنى عشر بطنا بطناً، حتى اجتمعوا فقال: [أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا نعم ما جربنا عليك إلا صدقًا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد]. فتكلم القوم كلاماً ليناً غير عمه أبي لهب حيث قال: تبًا لك يا محمد ألهذا جمعتنا؟ فنزل قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}[2].
ثم أتبع ذلك بقوله: خذوا على يديه قبل أن تجتمع عليه العرب، فإن سلمتموه إذن ذللتم. وإن منعتموه قتلتم. فقال أبو طالب: والله لنمنعنه ما بقينا، ثم قال للنبي ﷺ: أمض لما أمرت به، فو الله لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب.
ثم دعا اقرباءة فأجتمعوا إليه فقال: [إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعاً ما غررتكم، والله الذي لا إلا هو أني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحساناً وبالسوء سوءاً، وإنها الجنة أبداً أو لنار أبداً] [3]. بدأرسول الله الجهر بالدعوة فكان يدعوا الناس في الاندية والمحافل وعند المسجد الحرام، يحدثهم ويتلوا عليهم القران، وينتهز موسم الحج ليلتقي بالقبائل يعرض عليهم الاسلام قبيلة قبيلة، فيستجيب من يستجيب ويسخر من يسخر>
ولكنه في الوقت نفسه الذي يدعو فيه قريشاً والقبائل، كان يربي اولئك الذين قبلوا الدعوة ليبني منهم القاعدة الصلبة المتينة، فكان يجمع المؤمنون في البيوت بشكل سري على شكل مجموعات مغلقة، بعيدة عن أعين قريش، يربيهم ويبني فيهم الثقة بموعود الله ونصر الله. فبدأت دعوة رسول الله تأخذ طريقها إلى النفوس، ويزداد عدد أفرادها يوما بعد يوم، وبدأت الدعوة تنتشر بين مختلف الفئات والطبقات، فكان بين صفوف المؤمنين الرجل الشريف، والسيد المطاع والشيخ الهرم والفتى اليافع، والتاجر الغني والعبد الفقير.
حرب قريش الشاملة على الدعـــــــــوة:
- كان الجهر بالدعوة والإعلان عن المفاصلة الإيمانية وهدم قلاع الباطل شرارة بدء المواجهة بين رسول ﷺ وبين زعماء قريش وهم سادة المجتمع المكي الجاهلي الذين يتمتعون بخيراته، وهذا الدين الجديد ينادي بتغيير المجتمع وإقامة نظام جديد يساوي بين السادة والعبيد، وسوف يسلبهم مراكزهم الاجتماعية، فأبو جهل عاش ومات وهو يعتقد أن مسألة النبوة حيلة إبتدعها بنو هاشم وبنو عبد المطلب لكي يستعيدوا رياستهم التي فقدوها بعد وفاة عبد المطلب، فكان يقول: تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف فأطعموا وأطعمنا، وسقوا وسقينا، وأجاروا وأجرنا، حتى إذا تجاثينا على الركب كنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل ذلك؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه” [4].
- أو يسلب ما لهم من هيمنة دينية وسيطرة إقتصادية على معظم القبائل العربية، لوجود بيت الله الحرام، الذي تحج إلية القبائل كافة ولكل قبيلة صنم داخل الكعبة تحج إليه وتقدم له القرابين، ولما رأت قريش أن دعوة رسول الله ﷺ بدأت تنتشر وقد نالت مزيدًا من القبول وهذا ما اخاف قريش وزعمائها، على مصالحهم ومراكزهم ان يقضى عليها، وخشيت قريش على دينها أن يزول واصنامها ان تتحطم، فبدأت حرباً على الدعوة الجديدة التي رأت أنها تهدم كل أمجادهم وتضيع عليهم تجارتهم وزعامتهم المعنوية وشرفهم الذي ذاع في الأمصار، فتصدت قريش وحلفاؤها لمحاربة الدعوة الجديدة ومن اتبعها بكل السبل.
- ولم يكتفوا بتعذيب وقتل الضعفاء من المؤمنين، وكان على رأس المحاربين للدعوة الإسلامية في مكة ؛ أبو لهب وأبو جهل وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة وعقبة بن أبي معيط وأبو سفيان بن حرب -الذي أسلم لاحقاً- والنضر بن الحارث. والأخير كان صاحب القسط الأكبر في عداوة الإسلام ورسوله، وقامت حرب قريش على عدة محاور منها:
المحور الأول: إستخدام سلطان العشيرة:
- رأى عقلاء قريش وعلى رأسهم الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة أنه من الحكمة الذهاب أولاً إلى أبي طالب عم الرسولﷺ، وهم يحملون في حديثهم معه نغمة الرجاء تارة، والتهديد تارة اخرى، وشرحوا له تسفيه الرسول لالهتهم، وما يترتب على إنتشار دعوته من تدمير للنظام القبلي القائم عليه مجد قريش ومكة نفسها، فأبى رسول الله ﷺ إلا ان يصدع بكلمة الحق، وتنزيهه عن عبادة الاوثان وهو يقول لعمه أبي طالب: (أي عم أو لا أدعوهم إلى ما هو خير لهم منها؟ كلمة يقولونها تدين لهم بها العرب ويملكون رقاب العجم، فقال أبو جهل: ما هي؟ وأبيك لنعطينكها وعشر أمثالها، قال تقولون: لا إله إلا الله) [5] فهو يغري قومه بوحدة تجعلهم السادة والقادة، وتفتح أمامهم الطريق لملك العرب والعجم ولكنهم رفضوا.
- وبلغ الجمود الفكري بهم أن يقترحوا على أبي طالب أن يعطوه فرداً من خيرة أبنائهم ليتبناه مقابل أخذهم محمد وقتلة، ورفض أبو طالب هذا العرض، ولكن أوضح للرسول خطورة الموقف، وعندئذ أجاب رسول الله: [ يا عمّ، والله لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته]، ثم استعبر رسول الله r ثم قام، فناداه أبو طالب وقد جبل قلبه وطبعه على محبة فطرية للنبى ﷺ، فلم يكن من الناس من حاط النبى ورد عنه مثلما فعل أبو طالب، فقال: أقبل يابن أخي، فأقبل عليه رسول الله ﷺ، فقال: اذهب يا بن أخي، فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا[6].
المحور الثاني: استخدام اسلوب الترغيب وفق مفاهيم المجتمع القبلي:
- فأرسلوا مندوبا عنهم هو عتبة بن ربيعة وكان من الحكماء، فقال: يا ابن أخي، إنك منّا حيث قد علمت من المنزلة في العشيرة والمكان في النسب. وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فَرَّقت به جماعتهم، وسفّهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم. ولمنزلتك عندنا- سنعرض عليك أمورًا فاختر منها ما شئت. فقال له رسول الله: “قل يا أبا الوليد”. قال عتبة: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً. وإن كنت تريد به شرفًا سَوّدناك علينا، حتى لا نقطع أمرًا دونك. وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا. وإن كان هذا الذي يأتيك رِئْيًا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُداوى منه.
- وكان عتبة بتقديم هذه العروض يرى أنه يقدم أكبر تنازل قد حدث في تاريخ مكة كلها، وبعد أن انتهى عتبه من حديثه قال له ﷺ: [أفرغت يا أبا الوليد؟]. أجابه: نعم. وهنا قال له ﷺ : [فاسمعْ مني]. قال عتبة: أفعل. فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}. ثم يرتفع التحذير والتهديد فيبلغ أقصاه حين قرأ: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}[7]، لم يتمالك عتبة نفسه، ونسي أمر المفاوضات، بل نسي مكانته وهيبته، قام فزعًا وقد وضع يده على فم محمد وهو يقول: أنشدك الله والرحم إلا سكت مخافة من هول ما سمع، ثم رجع عتبة مهرولاً إلى قومه، حتى دخل على زعماء قريش، وحين جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟!
قال: ورائي أني سمعتُ قولاً والله ما سمعت مثله قَطُّ، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر، ولا بالكهانة. والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما يقول هذا بشر. يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونَنَّ لقوله الذي سمعت منه نبأٌ عظيمٌ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به. وفي ذهول تام ردوا عليه وقالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه. فأجابهم برأيه متمسكًا: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.
المحور الثالث: الحرب الدعائية[8] واستراتيجية النضر بن الحارث في محاربة الإسلام:
- كانت المواجهة في بداياتها تعتمد على المواجهات الفكرية ذات الطابع غير العنيف، برمي النبي ﷺ بكثير من التّهم الكاذبة والصفات السيئة كالجنون والسحر والكهانة والشعر، كما ذكر ذلك القرآن الكريم؛ {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا ءالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ}[9]، وغيرها من التّهم التي تعتبر من الحرب النفسية لزعزعة ثقة الناس به أو أنهم يظنون أنهم يضعفوا إرادة الرسول أو يفتوا في عضده أو يبعثوا في نفسه اليأس من استجابة قريش له.
- بنى النضر بن الحارث سياسته على محاربة سطوة القرآن، فانطلق إلى الحيرة في بعثة هدفها الاستفادة من خبرات الآخرين في اللهو والدعايات المضادة، وفي الحيرة تعلَّم النضر أحاديث ملوك الفرس، وقصص رستم، وتعلَّم الأساطير الفارسية، ودرس الحكايات والروايات، وكلها أمور تحمل عوامل التشويق والإثارة وجذب الانتباه، وفيها تنشيط للشهوات ومخاطبة الغرائز، كما اشترى من الحيرة جاريتين مغنيتين، وبعد فترة من الوقت عاد إلى قريش محملاً بخبرة وطرق جديدة لمحاربة الإسلام، وبدأ النضر في تطبيق منهجه واستراتيجيته في محاربة الإسلام ورسوله بعدة صور منها:
- الحيلولة بين الناس وسماعهم للقرآن ودعوة الإسلام، فكانوا يطردون الناس ويثيرون الشغب والضوضاء، إذا رأوا أن النبي ﷺ يصلى ويتلو القرآن أو يتهيأ للدعوة، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [10].
- قام النضر بتتبع مجالس النبي ﷺ التي يعظ الناس فيها، ويذكرهم بمصارع الأمم وعواقب المكذبين، ويتحين انتهاءه من الحديث والانصراف حتى يجلس موضعه، ثم يحدث الناس بأخبار كسرى وقيصر وأساطير الفرس والروم، ثم يقول: ما محمد بأحسن حديث مني، وما حديثه إلا أساطير الأولين، اكتتبتُها كما اكتتبَها محمد”. فأنزل الله -تعالى- قوله {وَقالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}[11]، وقد ذكر الطبري في تفسيره أن كل آية في القرآن ورد فيها لفظ “أساطير الأولين” – وعددها ثماني آيات – نزلت في النضر بن الحارث لعنه الله.
- ونلحظ ان القرآن كان ينزل مفنداً لأباطيل النضر وأكاذيبه أولاً بأول، وذلك من شدة ضررها وأثرها على الناس، مما يؤكد على مكانته الخاصة كأكبر مجرم حارب الإسلام ورسوله بكل إخلاص وتفاني.
- كان النضر بن الحارث[12] لا يسمع بأحد مال إلى الإسلام وبدأ يدخل قلبه ونفسه، حتى يرسل إليه بالجاريتين المغنيتين، فيسقيانه ويغنيان له وربما يفحشان معه، حتى لا يبقى في قلبه ميل للإسلام الذي سيحرمه من كل هذه الشهوات والمتع.
- إطلاقه الأكاذيب الباطلة عن القرآن، مثل ادعاؤه أن الملائكة بنات الله، وادعاؤه بأن القرآن أساطير الأولين، وادعاؤه بأن القرآن يصدق كلامه، كما في الرواية التي يرويها مقاتل بن سليمان قال النضر بن الحارث حين نزلت؛ {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوّلُ الْعَابِدِينَ}[13] ، وكان النضر قد قال الملائكة بنات الرحمن فلما سمع الاية قال: ألا تراه قد صدقني، فقال له أمية بن خلف – وكان أفصح منه- لا والله بل كذبك، فقال ما كان للرحمن من ولد.
- وادعاؤه القدرة على الاتيان بمثل القرآن، ولهذا تحدي الله تعالي العرب علي ما كانوا عليه من علم بأسرار باللغة العربية وأسباب البلاغة ـ أن يأتوا بعشر سور من مثل القرأن، أو حتى بسورة من مثله، قال تعالي: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[14]. وقال تعالي: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[15]. وقد عجزت القدرات البشرية، ولا تزال عاجزة عن أن تداني كتاب الله في روعة بيانه، أو في كمال صفاته، ودقة دلالاته، وصدق أنبائه، وسمو معانيه، وعدالة تشريعه، أو في نهجه وصياغته، وتمام أحاطته بطبائع النفس البشرية، وقدرته علي التعامل معها وهدايتها، ودقة استعراضه لمسيرة البشرية من لدن أبينا آدم عليه السلام إلي قيام الساعه، ومصير الانسان بعد الموت، ومن هنا كان القول بإعجاز القرآن.
- وبناءً على ثقافة النضر وعلاقته بأهل الكتاب والفرس، فقد صار معتمد قريش في المسائل المعرفية. وبعد أن عجزت كل الوسائل لثني الرسول ﷺ عن رسالته أو تحجيمه، أقدمت على خطوة جديدة وهي استطلاع أمر محمد ﷺ من أهل الكتاب، فهم أكثر خبرة وأوسع اطلاع لما عندهم من الكتب المقدسة والآثار القديمة التي ربما وجدوا الحل فيها. فكان النضر سفير قريش إلى يهود المدينة ومنهم نقل الأسئلة الثلاثة التي أراد بها أحبار اليهود معرفة حقيقة الرسول ﷺ، وهي السؤال عن فتية الكهف، وذي القرنين، والروح، فطار بها النضر فرحاً ظناً منه أنه قد جاء بالقاصمة للرسول ﷺ، ولكن الله -عز وجل- أخزاه ونزل الوحي مجيباً عن كل هذه الأسئلة.
- ولما قرب موسم الحج، وعرفت قريش أن وفود العرب ستقدم عليهم، فرأوا أنه لابد من كلمة يقولونها للعرب فأقترحوا أن يقولوا كاهن أو مجنون ولم تلقى هذه الاقتراحات القبول، ولم يجد هؤلاء سبيلاً يحصنون به أنفسهم من خطر إنتشار هذه الدعوة أقوى من القول بأنه سحر يسيطر به محمد على عقول الناس وقلوبهم، وكان الناس أنذاك يؤمنون بالسحر، فقالوا: ساحر جاء بقول يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، وبذلك يكون كل ما يتلوه عليهم من القرأن له على عقول الناس أثر من أثار السحر، ولننظر تأثير هذا الكلام على سيد من سادات العرب وهو:
الطفيل بن عمر الدوسي: سيد قبيلة دوس، كان شاعر مرهف الحس رقيق الشعور، قدم مكة، وقالت له رجال قريش: إنك امرؤ سيد في قومك، وإنا قد خشينا أن يصيبك هذا الرجل ببعض حديثه؛ فإنما حديثه كالسحر، فاحذره أن يدخل عليك وعلى قومك؛ فإنه فرق بين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وابنه، فما زالوا به حتى سد أذنيه بقطن، ومر بالرسول ﷺ وإذا هو قائم يصلي بالمسجد فقام قريبا، فسمع بعض قوله،
ثم فتح أذنيه واستمع للقرأن فما سمع كلاما أحسن منه، وذهب معه إلى بيته ،ولقد أوتي ﷺ سداد الرأي وسرعة الخاطر ووضوح التفكيروحدة الذهن واللباقة وحسن الحديث فكان يسلم له الرجل القوي المعتز بكبريائة وقوتة بعد كلمات قلائل فلما عرض عليه الإسلام أسلم الطفيل وكان إسلامه في السنة العاشرة من بعثه النبي بعد رجوعه من الطائف، وأمره رسول الله بدعوة قومه إلى الإسلام، فقال: يا رسول الله اجعل لي آية تكون لي عونًا، فدعا له رسول الله ﷺ فجعل الله في وجهه نورًا فقال: يا رسول الله إني أخاف أن يجعلوها مثلة، فدعا له رسول الله فصار النور في سوطه وكان يضئ في الليلة المظلمة،
ثم بعد فترة قدم الطفيل بن عمرو على رسول الله ﷺ، فقال: ” يا رسول الله إن دوساً قد عصت وأبت، فادع الله عليها، فاستقبل رسول الله ﷺ القبلة ورفع يديه وقال: [ اللَّهُمَّ اهد دوساً وأت بهم، ثلاثاً].[16] وقال للطفيل: [اخرج إلى قومك فادعهم وارفق بهم]، قال الطفيل فخرجت أدعوهم حتى هاجر النبي إلى المدينة. ومضت بدرًا وأحدًا والخندق ثم قدمت بمن أسلم ورسول الله بخيبر حتى نزلنا المدينة بسبعين أو ثمانين بيتًا من دوس، ولحقنا رسول الله بخيبر فأسهم لنا مع الناس وقلنا: يا رسول الله اجعلنا في ميمنتك واجعل شعارنا مبرورًا، ففعل. وكان ممن أسلم على يد الطفيل راوية الإسلام أبو هريرة رضي الله عنه.
✅ الخاتمة:
لقد شكّلت مرحلة الجهر بالدعوة وسياسة التدرّج التي اتّبعها الرسول ﷺ الأساس المتين الذي قامت عليه الأمة الإسلامية لاحقًا، حيث تمكن من إعداد نخبة صادقة الإيمان ثابتة المبدأ حملت الرسالة بوعي وقوة. ورغم ما واجهته الدعوة من حرب قريش الشاملة—بدءًا من استغلال سلطان العشيرة، ومرورًا بمحاولات الترغيب والاحتواء وفق الأعراف القبلية، وصولًا إلى الحرب الدعائية التي قادها النضر بن الحارث—فإن هذه الأساليب مجتمعة لم تستطع أن تقف أمام قوة الحق ولا أمام صفاء العقيدة الجديدة التي غيّرت مجرى التاريخ.
وفي المقال القادم، بعنوان من الأزمات تصنع النهضات: دروس من الهجرة الأولى وإسلام القادة، سنواصل استعراض الأساليب الأخرى التي استخدمتها قريش في مواجهة دعوة الإسلام، كما سنتناول بالتفصيل هجرة الحبشة وأثرها، وإسلام عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما، باعتبارهما محطتين مفصليتين في تاريخ الدعوة .
[1] (سورة الشعراء: الاية 214 الى 216)
[2] (المسد: 1)
[3] (الكامل 2 / 27 والسيرة الحلبية (1 / 272)
[4] (سيرة بن هشام، م1 ص: 316)
[5] (السير والمغازي: 154، الكامل في التاريخ: 2/44، البداية والنهاية في التاريخ: 3/123.)
[6] (الروض الأنف (3/ 46). حديث ضعيف رواة ابن اسحاق في السيرة.)
[7] (فصلت: 1-7)
[8] (في عصرنا الحاضر توجد أنواع من الاعلام تخدم بذكاء ودهاء ألواناً شتى من الالحاد والانحراف، بلغت من النجاح حداً كاد يقلب الحق باطلاً ويجعل النهار ليلاً، بينما اجهزة الدعائية الإسلامية وهم كبير لاتقوم بدورها المطلوب)
[9] (الصافات: 36)
[10] (فصلت: 26)
[11] (الفرقان: 5-6)
[12] (أسس النضر بن الحارث منهجاً متفرداً في محاربة الإسلام ورسوله ودعاته سار على دربه كل أعداء الدعوات عبر العصور، منهج أهل الباطل في الشغب والتشويش على دعاة الحق ورسالة الحق، وبأدوات مازال المبطلون يتواصون بها عبر الأجيال والعصور، فما زال الغناء والرقص والطرب والمعازف والحكايات والأساطير هي أدوات أعداء أمة الإسلام، ونلحظ أن قمة وذروة هذه الهجمة الإلهائية تكون في شهر رمضان المبارك؛ أعظم موسم للطاعة عند المسلمين، حيث ذلك التكدُّس الضخم للأعمال الفنية الملهية عن أي شيء جادٍّ في الحياة اليومية، والملهية عن الدين وغير الدين.)
[13] (الزخرف: 81)
[14] (هـــــــود:13)
[15] (البقــــرة:23)
[16] (حديث مرفوع عن أَبِي هُرَيْرَةَ- صحيح البخاري : 2937)
للحصول على مزيد من المعلومات برجاء متابعى على المنصات التالية:
الفيسبوك: https://www.facebook.com/profile.php?id=100088893776257
اليوتيوب: https://www.youtube.com/@ashrafrashad8031
التيك توك:https://www.tiktok.com/@ashraf.r1
الانستاجرام:https://www.instagram.com/ashraf.rashad.58/




تعليق واحد