أبو الريحان البيروني

عندما نتحدث عن العقول الفذة في الحضارة الإسلامية، لا يمكن أن نتجاهل اسم أبو الريحان البيروني، العالم الموسوعي الذي برع في الفلك، الرياضيات، الجغرافيا، والفيزياء، حتى عُدَّ واحدًا من أعظم العلماء في التاريخ الإنساني. كان البيروني مثالاً للعالم المتعدد التخصصات، الذي جمع بين الملاحظة الدقيقة، والبحث التجريبي، والتحليل العقلي العميق.
الميلاد والنشأة:
وُلد البيروني في خوارزم (أوزبكستان حالياً)، والتي كانت في عهده تابعة للسامانيين وهي سلالة فارسية حكمت في بلاد ما وراء النهر وأجزاء من فارس وأفغانستان، والبيروني بلغة خوارزم تعني الغريب أو الآتي من خارج البلدة.
كان منذ صغرة عاشقاً للطبيعة، يهوى التجول في المراعي والبساتين متأملاً نباتاتها وازهارها المتنوعة حتى أن أمة صارت تكنية بأبي الريحان، وفي هذه المراعي والبساتين تفتح الطريق أمام البيروني إلى دراسة علم النبات وأسراره في هذه السن المبكرة.

الاحوال السياسية المعاصرة له:
- تميز العصر العباسي الأول بقوة السلطة المركزية، وبالتنظيمات الإدارية والإصلاحات. وشمل ذلك العصر خلافة هارون الرشيد وابنه المأمون، ثم المعتصم بن الرشيد، فالواثق بن المعتصم.
- أما في العصر العباسي الثاني فقد بدأ عصر الضعف للدولة العباسية نتيجة ازدياد نفوذ الجنود الاتراك في الخلافة العباسية، وبعد أن تآمر المنتصر مع الجنود الاتراك على قتل أبيه المتوكل عام 247هـ/ 862م، وكان من نتيجة عدم قدرة الخلفاء العباسيين على إدارة امبراطوريتهم الواسعة، أنهم منحوا الولاة حق الإدارة والاستقلال شبه الذاتي.
- وظهرت عواصم تكونت فيها بلاطات رائعة غنية عملت جاهدة لتحاكي بغداد التي لقبت بالعاصمة الفكرية بعد أن خسرت مكانتها كعاصمة سياسية.
- وقد أقام البيروني مدة طويلة في مدينة جرجان، الواقعة جنوب شرقي بحر قزوين، في عهد قابوس بن وشمكير أمير جرجان وبلاد الجبل (ت 403هـ)، وفي خوارزم اتصل البيروني بخوارزم شاه وحظي عنده بمكانة، وكان هذا الأمير يعهد إليه بمهمات سياسية دقيقة، لما اتصف به من طلاقة لسان، وقدرة على الإقناع غير عادية.
- لما قتل خوارزم شاه، استولى محمود الغزنوي على خوارزم سنة 407هـ /1017م وأمر بالقبض على البيروني وهمّ بقتله، ولكن بعض عارفيه أشاروا على السلطان باستبقائه، لخبرته النادرة بعلم النجوم، فأبقاه ليستعين بعلمه.
رحلته في طلب العلم:
- تعرف البيروني وهو صبي صغير على عالم نبات يوناني، وأمام إعجاب العالم اليوناني بشغف البيروني بالطبيعة واسرارها، اصطحبه للعمل معه في جمع الزهور والاعشاب كاشفاً له بعض من أسرار علمه، وحينما أوشك العالم اليوناني على العودة لبلادة لطول غيابة قرر أن يصطحب البيروني ليعرفه على عالم الفلك والرياضيات أبي نصر منصور بن علي وكان أميراً من أمراء الاسرة السامانية وكان محباً للعلم والمعرفة.
- رحب العالم أبي نصر منصور بن علي بالبيروني رغم سنه الصغيرة وقربة منه، وعلمه ما يعرفه من علوم الفلك والرياضيات، ثم قدمه للعالم الفلكي عبد الصمد الحكيم الذي كان نقطة التحول في حياة البيروني، وساعدة امراء الاسرة الخوارزمية في إقامة مرصد، وظل أبو الريحان ملازما لمرصدة يكتب ويدون ما يراه ويرصده بواسطة آلة فلكية ابتكرها وقام بتجهيزها، حتى فوجئ برحيل أمير خوارزم وجاء امير جديد هو مأمون بن محمد وطلب منه البقاء على ان يشمله برعايته ولكن أبو الريحان قرر الرحيل بحثا عن المزيد من المعارف.
منهجه العلمي
ما يميز البيروني عن غيره هو المنهج النقدي التجريبي الذي سبق به عصره:
- لم يكن ينقل المعلومة بلا فحص، بل كان يقارن بين المصادر.
- اعتمد على القياس والرصد والتجربة، سواء في الفلك أو الجغرافيا أو الفيزياء.
- كان من أوائل من تحدث عن دوران الأرض حول محورها، وأجرى حسابات دقيقة لمحيط الأرض باستخدام أساليب هندسية مبتكرة.
شغف لا ينطفئ:
لم يكتفِ البيروني بالكتب التي بين يديه، بل جعل من السفر وسيلة للعلم. فبعد رحيل أبو الريحان من خوارزم ظل يتنقل من بلد إلى بلد بحثاً عن الجديد أو هرباً من تقلبات الظروف السياسية، وكان يسجل ملاحظاته عن كل ما يقابله اثناء ترحاله، حتى استقر به المقام في جرجان في سن ال25 والتحق ببلاط الأمير أبو الحسن شمس المعالي امير جرجان وطبرستان، ذلك الأمير الذي شغله العلم، وامتلأ قصره بالعلماء.
ولما علم الأمير شمس المعالي بقصة أبي الريحان وكثرة ترحاله، شمله بعطفه ورعايته وأعطاه الأموال الكثيرة، حتى تفرغ للعلم والتأليف، وفي سنة 390هـ عندما كان عمر البيروني 28 عاما، ظهر اهتمامه بعلم التاريخ وتأصيل الكتابة التاريخية والف كتابه الشهير “الآثار الباقية عن القرون الخالية” وقدم الكتاب هدية إلى الأمير .
مؤلفاته ودراساته
ترك البيروني ما يزيد على 150 مؤلفًا، من أبرزها:
كتاب الاثار الباقية عن القرون الخالية:
موسوعة في التاريخ والديانات والتقاويم. واحتوى الكتاب على معارف شتى ومتنوعة عن الأمم السالفة، ويشير في مقدمته بأنه سُئل من قبل أحد الأدباء عن التواريخ التي تستخدمها الأمم والاختلاف الواقع في الأصول التي هي مبادئها والفروع التي هي شهورها وسنينها والأسباب الداعية لأهلها إلى ذلك.
وعن كيفية حسابهم للشهور والاعوام والأعياد المشهورة والأيام المذكورة وذكر تواريخ الملوك وحدود ملكهم، وغيرها من عادات وتقاليد الأمم والطوائف المختلفة ومن فحوى هذه الأسئلة التي كانت سبباً لتأليف الكتاب نتعرف على:
- المنهج العلمي للكتاب: أوضح في المقدمة المنهج العلمي الذي اتبعه أثناء تأليفه، فنجده بلغ بهذا المجال مستوى متطور جداً قياساً إلى عصره وإمكانياته، حيث يقول:
- إن العالِم لا يستطيع أن يبدع بالعلم فجأة وبدفعة واحدة بل عليه أن يعود إلى مناهل العلم في الآثار التي تركها السلف، وينبغي أن ندرس ما وصل من السلف ونخضعه للنقد وللمقاييس العقلية وللمراقبة والاختبار لتمييز الخطأ عن الصواب وأن نحذر الثقة العمياء بالآراء ومصادرها.
- للتأكد من صحة الأدلة العقلية لا بد من تطبيقها على المحسوسات تطبيقاً مادياً وذلك في كافة حقول العلم المتنوعة.
- العالِم الحقيقي هو الذي يبتعد عن التعصب لرأي ويبتغي الحقيقة المطلقة بمعزل عن الأهواء والرغبات، وهو الذي يسعى وراء الحقيقة لأنها حقيقة، لا للتظاهر والمفاخرة بالمعرفة، فالتواضع من أهم صفات العالم.
كتاب القانون المسعودي:
موسوعة البيروني في الفلك والجغرافيا: يُعد كتاب القانون المسعودي من أعظم ما ألّفه أبو الريحان البيروني (973 – 1050م)، وهو عمل موسوعي ضخم ألّفه وأهداه إلى السلطان مسعود بن محمود الغزنوي، ومن هنا جاءت تسميته.
محتوى الكتاب: الكتاب ليس مجرد مؤلف في الفلك، بل موسوعة علمية شاملة تضم:
- الفلك والرياضيات: حسابات الكواكب والنجوم، وحركاتها، ورصد مواقعها بدقة عالية.
- الجغرافيا الرياضية: قياسات دقيقة للأرض، تحديد خطوط الطول والعرض، ورسم خرائط.
- الأرصاد والظواهر الطبيعية: تفسير ظواهر مثل الكسوف والخسوف والمد والجزر.
- التقاويم: مقارنة بين التقاويم الفارسية والهندية واليونانية والإسلامية، وتحديد طرق ضبط الزمن.
المنهج العلمي في الكتاب: ما يميز القانون المسعودي أنه لم يقتصر على النقل، بل اعتمد البيروني فيه على:
- الرصد المباشر للكواكب.
- الحسابات الرياضية المعقدة.
- منهج المقارنة بين المصادر اليونانية والهندية والإسلامية.
ولهذا عُدّ الكتاب المرجع الأشمل في الفلك قبل ظهور أعمال كوبرنيكوس بقرون.
أهمية الكتاب:
باختصار: كتاب القانون المسعودي هو تاج مؤلفات البيروني، ومثال على عبقرية المسلمين في الجمع بين العلم والدقة والبحث المستقل.
- مثّل قمة نضج علم الفلك الإسلامي.
- أصبح مرجعًا أساسيًا للباحثين في الشرق والغرب.
- جمع بين الجانب النظري والعملي، مما جعله موسوعة علمية حقيقية.
كتاب تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة: دراسة عميقة للحضارة الهندية، بروح الباحث المنصف لا الفاتح الغازي.
لم يكن كتاب القانون المسعودي مجرد سجل فلكي أو موسوعة جغرافية، بل كان شاهدًا على عبقرية عقلٍ مسلمٍ استطاع أن يجمع بين الدقة الرياضية والبصيرة الفلسفية، وبين الإيمان العميق والتجريب العلمي. لقد جسّد البيروني روح الحضارة الإسلامية التي جعلت من العلم جسرًا لفهم أسرار الكون، لا مجرد ترف فكري.
ولعظمة إنجازاته، لم يقتصر تقدير البيروني على عصره أو موطنه، بل امتد ليشمل العالم أجمع:
- أطلق الاتحاد الفلكي الدولي اسمه على أحد الفوهات القمرية تكريمًا لمكانته في علم الفلك.
- سُميت جامعة كبرى في أوزبكستان باسمه “جامعة البيروني” تخليدًا لإرثه العلمي.
- اعتبره المستشرقون واحدًا من أعظم العقول الموسوعية في التاريخ الإنساني، حتى لُقّب في الغرب بـ Leonardo of the East.
- واحتفت به اليونسكو ضمن روّاد التراث العلمي العالمي، مؤكدة أن إرثه لا ينتمي لحضارة بعينها، بل هو إرث مشترك للبشرية كلها.
وهكذا يظل البيروني، بكتابه القانون المسعودي، شاهدًا خالدًا على أن العلم الحقيقي لا يعرف حدودًا، وأن الباحث عن الحقيقة يصل دائمًا إلى ما ينفع الناس ويبقى أثره خالدًا.
وبكدة نكون وصلنا لنهاية المقال عن: أبو الريحان البيروني
في المقال القادم نستكمل
للحصول على مزيد من المعلومات برجاء متابعى على المنصات التالية:
الفيسبوك: https://www.facebook.com/profile.php?id=100088893776257
اليوتيوب: https://www.youtube.com/@ashrafrashad8031
التيك توك:https://www.tiktok.com/@ashraf.r1
الانستاجرام:https://www.instagram.com/ashraf.rashad.58/