أسباب انهيار الحضارات: تبني الكثير من المفكرين للنـظرية التي تقول إن الحضارات تنتحر ولا تُقتل، أي أن الحضارة تنهار من الداخل بالانحلال البطيء للقوى الداخلية الفاعلة قبل أن تسقط بفعل غزو خارجي، بينما يرى البعض أن التدهور الذي يصيب الحضارات لا يحدث حدوثاً مفاجئاً، دون مقدمات أو مؤشرات، وإنما يكون عملية بطيئة تتجمّع عناصرها خلال فترات زمنية طويلة، ولا تحدث في عصر واحد أو في مكان واحد، وإنما ترجع إلى جملة من العوامل التي تتفاعل مع بعضها خلال فترات تاريخية معينة. قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ}[1]
من أسباب نهاية الحضارة الإنسانية الأولى عوامل عديدة من أهمها:
أولاً: الكفر والشرك بالله (عزَّ وجل): بدأت حياه البشرية من “آدم” (عليه السلام)، وعندما انحرفت ذريه آدم عن التوحيد وإفراد العبادة للخالق العظيم ، وضعفت وأخطأت السبيل في قيمها الروحية ومعرفتها بخالقها العظيم، أرسل الله عز وجل “نوحاً” (عليه السلام) إلى قومه فأقام عليهم الحجة، وعندما رفض قوم نوح (عليه السلام) دعوة التوحيد التي جاء بها في نهاية الحضارة الإنسانية الأولى، مضت سنة الله في زوالهم واستئصالهم، وما آمن معه القليل الذين قامت بهم الحضارة الإنسانية الثانية بعد الطوفان العظيم.
ثانياً: تنهار الحضارات بسبب الانحطاط الأخلاقي:
ما هي الأخلاق وكيف لنا أن نصفها؟ الأخلاق هي مجموعة القواعد التي يحاول من خلالها المجتمع أن يحض أفراده ومؤسساته على الالتزام بسلوكيات وتصرفات متسقة مع نظام هذا المجتمع وأمنه ونموه. وقد سقطت كثير من الدول وانهارت بسبب الانحطاط الأخلاقي، وبالذات عند ظهور المعاصي وارتكاب الخطايا والانغماس في الذنوب، قال تعالى: {مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا}[2]. ومن تلك الدول والحضارات: الحضارة الفارسية، الحضارة الرومانية، الحضارة الإسبانية.
- حتى في تاريخنا الإسلامي، كان الانحطاط الأخلاقي، وتفشي الظلم والاستبداد، سبباً رئيسياً في انهيار الدوله، وخير شاهد على ذلك ما كان من أمر الخلافة العباسية، فبعد أن وطد خلفاء العصر العباسي الأول أركان الملك، جاء من بعدهم حكام اخلدوا إلى الدعة [الراحة والهدوء]، وأمعنوا في الترف وجر ذلك إلى كثرة في النفقات وزيادة الضرائب، فانحطت موارد الثروة وقل إيراد الحكومة، وضعفت بالتالي شوكة الدولة وعجزت عن تحصيل ضرائبها.
- انهيار الأخلاق، يؤدي إلى التفاوت الطبقي والاجتماعي، ويبرر اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، ويفتح الأبواب واسعة ويشرعها للتمدد الإمبراطوري، الذي عادة ما يتسبب في كتابة السطور الأخيرة من تاريخ أمم سادت وبادت.
ثالثاً: الظلــــــــــم: يعدُّ تفشي الظلم والاستبداد من اكبر عوامل سقوط الحضارات، وله مفهوم شامل عريض، يؤدي إلى فقدان التوازن في كافة مجالات الحياة وعلاقة الإنسان مع نفسه ومع الله ومع غيره، وعن هذا تنبثق ظواهر نفسية واجتماعية واقتصادية مرضية، وتصورات فاسدة عن الوجود كله، فيعم الفساد الحياة الإنسانية بأسرها، قال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}[3] وقال تعالى {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}[4]
رابعـاً: سنة الاستبدال: قال تعالى: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم}[5]، فقد مضت سنة الله في أنه ما أهلك قوماً إلا أنشأ من بعدهم قوماً آخرين يقومون بعمارة الأرض، وكما أن للحضارات سنن قيام وسقوط، فلها سنن تجدد وانبعاث واستبدال.
- مثل ما حدث لقوم نوح (عليه السلام) حيث تجمعت فيهم أسباب الهلاك، فمضت سنة الله فيهم بالطوفان، ولكي تستأنف الإنسانية رسالتها استبدلها الله بنوح (عليه السلام) والذين آمنوا برسالته.
- وقصة موسى وهارون- عليهما الصلاة والسلام عندما بعثهم الله بالبينات والمعجزات لفرعون وقومه، مثال لهذا الاستبدال، فعندما أسرف فرعون وعلا في الأرض، وطغى وتألَّه وقال: ﴿أنا ربُّكم الأعلى﴾. وسام بني إسرائيل سوءَ العذاب، حفاظًا على ملكه وسلطته؛ فعاقبه الله تعالى على طغيانه واستكباره، وظلمه حيث أخرجه من ملكه وسلطته، وأرضه وقُصوره، وجنَّاته وعيونه، وأغرقه في البحر وجعله آية لمن بعده. قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}[6].
- فعلم الله لا يتبدل وسنته لا تتحول وهي جارية وحاكمة وفق مشيئته وإرادته وعلمه وحكمته سبحانه وتعالى، تلك عوامل أدت إلى هلاك الأمم وزوال الحضارات عبر التاريخ الإنساني؛ فالكفر والشرك والظلم والترف والكذب والمعاصي والاستكبار والغرق في ملذات الدنيا ونسيان الآخرة والابتعاد عن القيم الإنسانية.
ولقد حازت قضية انهيار الحضارات وانتحارها، اهتمام المؤرخين وشغلت بال الفلاسفة وأرَّقت المفكرين؛ واجتهدت النظريات الأنثروبولوجية والاجتماعية، ذات الخلفيات الدينية والهويات الثقافية والتوجهات الحضارية المتنوعة، في تحليلها عبر العصور.
جوهر نظرية المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي (1889-1975م)، المعروفة بـ(التحدي والاستجابة) التي تضمَّنتها موسوعته:(دراسة للتاريخ) وتأثَّر فيها كثيرًا بالعبقري ابن خلدون، مؤكدًا فيها أن الحضارات إنما تصعد وتنهض؛ استجابة لتحديات محدَّدة سواء كانت هذه التحديات مادية أم اجتماعية. وعندما تعجز هذه الحضارة عن الاستجابة للتحديات التي تواجهها؛ فإنها تدخل في مرحلة الانهيار، مشددًا على أن الأمم والحضارات تموت أساسًا؛ بسبب عوامل داخلية.
وفي القلب من هذه العوامل؛ انهيار منظومة قيمها الأخلاقية. وأوجز هذه القضية في عبارة بليغة: “إن الحضارات لا تموت قتلاً؛ وإنما انتحارًا”! وفي دراسته للتاريخ؛ تشكِّل العوامل الدينية والقيمية والأخلاقية عصب استمرار الحضارات ويقف الابتعاد عن قيمهما إلى تفسخ المجتمع وانهيار حضارته.
فيما وضع المؤرخ الأمريكي ويليام ديورانت (1991-1885م)، انهيار منظومة القيم الدينية والأخلاقية في طليعة أسباب سقوط الحضارات، فيقول: «الحضارات العظيمة لا تنهزم إلا عندما تدمِّر نفسها من داخلها. والأسباب الرئيسة لانهيار روما مثلاً والحضارة الرومانية؛ تكمن في شعبها وأخلاقياته..». وهكذا حدث إجماع وتوافق متطابقين بين المؤرخين: العربي والبريطاني مع الأمريكي في إشكالية سقوط، وانتحارها، وهو: انهيار المنظومة القيمية والأخلاقية.
وسيظل التاريخ شاهدًا مهمًا على نهوض الحضارات وانتحارها في دورات متتالية تشبه دورة حياة الإنسان نفسه، بعدما قدَّم لنا شهادات كثيرة معاصرة؛ تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن أخطر ما يهدِّد مسيرة البشر؛ هو اختلال الأداء الحضاري، واهتزاز العلاقة بين الإبداع والأداء القيمي السلوكي.
ولعل أبرز ذلك ما خطَّه ميخائيل غورباتشوف (1931-1931م)، رئيس ما كان يسمى بـ (الاتحاد السوفييتي) في كتابه: بيريسترويكا (إعادة البناء): “رغم الانتصارات العلمية والتقنية؛ نجد نقصًا واضحًا في الكفاية في توظيف المنجزات العلمية” ويستطرد، قائلاً: “لقد بدأ التدهور التدريجي في قيم شعبنا الأيديولوجية والمعنوية، وبدأ الفساد يسري في الأخلاقيات العامة” مواصلاً الحديث في هذا الشأن: “مهمتنا اليوم أن نرفع روح الفرد، ونحترم عامله الداخلي، ونعطيه قوة معنوية؛ ليكون مستقيمًا، حي الضمير“!
- يرى ابن خلدون أن: “إن العدوان من قبل السلطان على أموال الناس سبب في خراب العمران وانهيار الحضارة”
- وقد تأثر توينبي بأبن خلدون في تفسيره لتحلل الحضارات وانهيارها إذ يعزو ضعف الحضارة وسقوطها إلى تغيير فلسفة الفئة الحاكمة في الحكم، فبدلاً من أن تستمر على خدمة المصلحة العامة، فإنها تتحول إلى فئة مسيطرة لا تهتم إلا بخدمة مصالحها الخاصة، حتى وإن كانت على حساب مصلحة الأغلبية الساحقة، ويتسبب هذا التغير في طابع الحاكم في استفزاز الأغلبية الموالية له، والتي تفقد إعجابها به، وتتوقف عن مساندتها له، بل وتثور عليه.
أن جوهر نظرية توينبي يقوم على ان الامم والحضارات تموت اساسا بتحلل المجتمعات من الداخل بسبب عوامل داخلية كانهيار القيم والأخلاق، قبل أن يأتيها غزو من الخارج ليجهز عليها، ذلك أن الغزو الخارجي في مثل هذه الحالة يمثل الضربة القاضية في مجتمع يلفظ أنفاسه الأخيرة، لذا يمكن القول: إن أية حضارة لا يمكن أن تنهار من الخارج من دون أن تكون قد تآكلت من الداخل، إذ لا يمكن بحال من الأحوال قهر أية إمبراطورية من الخارج إذا لم تكن قد انتحرت من الداخل ويرجع توينبي العوامل الرئيسية في انهيار الحضارات والمجتمعات الى ثلاثة عوامل هي:
- إخفاق الأقلية المسيطرة والحاكمة لقدرتها على الإبداع، أو فشل قوتها الخلاقة.
- فتور الإيمان عند الأغلبية، وتنسحب عن الأقلية الحاكمة، وتتحين الفرصة للثورة.
- ضياع الوحدة الاجتماعية للمجتمع.
مراحل التدهور الحضاري:
تمر مرحلة التدهور في ثلاثة أطوار:
- التصدع الحضاري.
- التحلل الحضاري.
- التفتت الحضاري.
- وعلى سبيل المثال حدث تصدع للحضارة المصرية القديمة في القرن السادس عشر قبل الميلاد ولكنها تحللت في القرن الخامس الميلادي. في خلال هذه المدة أي زهاء ألفى سنة بقيت في حالة متحجرة شبيهة بالموت.
– وفي الصين تصدعت حضارتها في القرن التاسع الميلادي وبقيت ألف سنة حتى انتهى تحللها.
آمن توينبي أنه كلما ازداد التحدي تصاعدت قوة الإستجابة حتى تصل بأصحابها إلى ما يسميه بـ “الوسيلة الذهبية”، والتي تتلخص في أنَّ أي حضارة تقوم بمواجهة التحدي بسلسلة من الإستجابات التي قد تكون أحياناً غير ناجحة في مواجهة التحديات التي تعترض طريق النهضة والحضارة، ولكن بالتحدي وكثرة المحاولات المتنوعة تهتدي الأمم إلى الحل النموذجي الذي يقودها بأمان إلى النهضة والحضارة، وتكون بذلك قد وصلت إلى الوسيلة الذهبية.
حضارة المايا: الذي امتد حُكمها (من 2000 ق.م إلى 250 ميلادياً).. والتي تسببّت الأمراض الوبائية والجفاف الحاد في انهيارها بالإضافة إلى حروب الإبادة الجماعية ، وما نجم عنها من إصابات وأوبئة قضت على القوّة الديمغرافية لا سيّما بعد الغزو الإسباني لهم في القرن 16.
في هذا المجال أيضاً، يعتقد علماء الآثار أن الجفاف الذي ضرب بلاد ما بين النهرين لمدّة 300 عام كان عاملاً رئيساً من عوامل سقوط الإمبراطورية الأكدية (السومرية) التي تمركزت في مدينة أكد (على الصفة الغربية لنهر الفرات)، وكان هذا السبب أيضاً عاملاً قوياً في سقوط حضارة كمبوديا المعروفة سابقا باسم كمبوتشيا أو ما عُرف بالحضارة الخميرية.
سقوط الحضارة الرومانية: التي انهارت بسبب الاستنزاف الخارجي نتيجة سياسة التوسّع، بالتزامن مع التقهقر الداخلي، وهذا ما يُمكن تفسيره بعدم وجود حكومة مركزية قوّية وبسياسة ضرائبية جائرة، كان قوامها: الغزو والعبودية وسحق الموارد البشرية لتسريع عجلة النمو الإقتصادي ولتعزيز البنية التحتية وتمددّ النفوذ على حساب النواة المركزية.
وقد بدأ العد العكسي بانهيار الامبراطورية الرومانية في عام 235 م الذي اتسم بالاضطرابات السياسية وشكلت الهجمات الخارجية من القبائل المستعمرة.، الضربة القاضية للرومان.
سبا، وادي السند، و شبه القارة الهندية ، الحضارة الفرعونية، عيلام، الشعوب الفينيقية، الحضارة الفارسية الإغريقية، الأتروسكان، الأولمية، عشرات من الحضارات القديمة التي ما زال يختلف عُلماء الانتروبولوجيا في السبب الأول لسقوطها..لكن تعددت التفسيرات والسقوط المُدّوي واحد..
المراجع:
[1] سورة السجدة الآية: 26 [2] سورة نوح الآية: 25. [3] سورة هود الآية: 102. [4] سورة هودالآية: 117 [5] سورة محمد الآية:38 [6] سورة القصص الاية: 5.
- الدكتور راغب السرجاني. موقع قصة الإسلام (الانترنت).