الوضع العلمي قبل النهضة الإسلامية
منذ فجر التاريخ، أخذ الإنسان يتأمل في الكون من حوله، يراقب السماء بنجومها المتلألئة، وحركات الكواكب، وتعاقب الليل والنهار، ويتساءل: من أين جاءت هذه المخلوقات؟ وكيف بدأت؟ هذه التأملات ولّدت عنده أولى التصورات العلمية عن الكون، والتي تناقلتها الأجيال وأضافت إليها معارف جديدة.
المعرفة الفلكية عند الحضارات القديمة
كان للمصريين القدماء إسهام بارز في مراقبة السماء؛ فقد لاحظوا حركة النجوم وتوزيع الأبراج، وحاولوا في البداية وضع تقويم قمري، لكنهم اكتشفوا أن التقويم الشمسي أكثر دقة وأسهل في الاستخدام، خاصة لارتباطه بموعد فيضان النيل. لذلك اعتمدوا السنة الشمسية المكونة من 12 شهرًا، كل شهر 30 يومًا، وأضيفت إليها خمسة أيام اعتبروها أعيادًا. كما استخدموا القمر لتقسيم الأشهر إلى أيام، وربطوا بين مواقع النجوم ومواسم الزراعة والبرد والحرارة.
أما البابليون في العراق، فقد استخدموا السنة القمرية بدلاً من الشمسية. وفي الجزيرة العربية، اعتمد العرب الأوائل على نظام بدائي لحساب الزمن استنادًا إلى ظاهرة الغروب النجمي للنجوم والكوكبات، فيما عرف بـ علم الأنواء، وهو علم يشبه الأرصاد الجوية الحديثة من حيث التنبؤ بحالة الطقس، لكن على أسس تقليدية تعتمد على شروق النجوم وغروبها. وقد استخدمه البدو لتوقع الأمطار، لكنهم نسبوا المطر إلى النجوم، بل لجؤوا إلى طقوس استمطار، مما جعل علم الفلك عندهم قبل الإسلام مرتبطًا بالتنجيم والخرافات، حتى جاء الإسلام ليبطل هذه العقائد الباطلة، ويحول علم الفلك من خرافة إلى علم يقوم على الرصد والاختبار.
كما استخدم العرب في الجاهلية التقويم القمري، يحددون بدايته برؤية الهلال في الأفق بعد غروب يوم التاسع والعشرين من الشهر. ولم يكن لديهم تقويم ثابت للأحداث، بل اعتمدوا على وقائع كبرى مثل عام الفيل ويوم بعاث.
وفي صدر الإسلام، لم يحظ علم الفلك في البداية باهتمام كبير بسبب انشغال المسلمين بنشر الدعوة وتثبيت أركان الدولة، إلا أن الحاجة العملية لاحقًا دفعتهم للتقدم فيه.
الفرق بين علم الهيئة وعلم النجوم
عرفت الحضارات القديمة الفلك مرتبطًا بالتنجيم وادعاء معرفة الغيب، وهو ما انعكس في بدايات الفكر الإسلامي، حتى اختلط على البعض الفرق بين علم الهيئة (الفلك) وعلم النجوم (التنجيم)، فظنوا أنهما علم واحد، فحرّموا تعلمه مستندين إلى حديث النبي ﷺ: “من اقتبس علما من النجوم اقتبس بابا من السحر”.
لكن الحقيقة أن علم النجوم يقوم على التنبؤ بالمستقبل والشخصية من خلال أوضاع الكواكب لحظة الميلاد، وهو محرم في الإسلام لأنه يقوم على ادعاء أن النجوم تؤثر في حياة البشر، وهذا شرك بالله. أما علم الهيئة أو الفلك، فهو العلم الذي يدرس الأجرام السماوية وحركتها على أسس علمية، من خلال الرصد والحساب.
وقد فرق علماء المسلمين بينهما بوضوح، واعتبروا التنجيم باطلاً، بينما عدوا الفلك علمًا نافعًا، بل أساسًا لتحديد أوقات الصلاة واتجاه القبلة. قال الإمام الغزالي: “من لم يعرف الهيئة والتشريح فهو عنين في معرفة الله تعالى”، أي عاجز عن إدراك عظمة الخالق.
اهتمام الإسلام بعلم الفلك
القرآن الكريم كان الدافع الأكبر لتقدم الفلك عند المسلمين، فقد حفلت آياته بدعوة التأمل في السماوات والنجوم والظواهر الكونية، مثل قوله تعالى:
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ}.
تكرر ذكر المفردات الفلكية في القرآن مئات المرات: السماء 310 مرة، الشمس 33 مرة، القمر 27 مرة، وسميت بعض السور بأسماء فلكية مثل: القمر، النجم، الشمس، البروج.
لم يكن الهدف من النظر إلى السماء التسلية، بل البحث العلمي للوصول إلى أسرار الكون والاستدلال بها على عظمة الخالق. ولهذا أقبل علماء المسلمين على الفلك دراسةً وبحثًا، حتى عدّ بعض الباحثين علم الفلك الإسلامي تفسيرًا للآيات الكونية في القرآن.
مراحل تطور علم الفلك في الحضارة الإسلامية
مر علم الفلك في الحضارة الإسلامية بأربع مراحل رئيسية:
1. مرحلة النقل والترجمة والاستيعاب (القرن الثاني والثالث الهجري / الثامن والتاسع الميلادي)
- استفاد المسلمون من تراث اليونان والفرس والهنود في الفلك، فقاموا بترجمة الكتب إلى العربية،
- أسهم في الترجمة علماء كبار مثل حنين بن إسحاق وثابت بن قرة، في ظل رعاية الخلفاء.
- بدأت في العصر العباسي، خاصة في بيت الحكمة ببغداد الذي أسسه المأمون.
- تم خلالها ترجمة الكتب الفلكية اليونانية والسريانية والهندية مثل:
- كتاب المجسطي لبطليموس.
- الجداول الفلكية الهندية (السندهند).
- ركّز العلماء على فهم هذه العلوم وبناء أساس قوي للمعرفة الفلكية.
2. مرحلة الإضافة والتطوير (القرن الرابع والخامس الهجري / العاشر والحادي عشر الميلادي)
- بعد مرحلة الترجمة، بدأ العلماء المسلمون في شرح الكتب وتصحيح الأخطاء. بل أضافوا تعديلات وأدخلوا تصحيحات على النظريات القديمة.
- وضعوا الجداول الفلكية (الزيجات) مثل:
- زيج البتاني.
- زيج الطوسي.
- زيج الصابئ.
- أعمال ابن الشاطر التي أثرت في كوبرنيكوس.
- ابتكروا آلات فلكية مثل الإسطرلاب وطوروا طرق الحساب.
3. مرحلة النقد والإبداع (القرن السادس حتى الثامن الهجري / الثاني عشر حتى الرابع عشر الميلادي)
- بدأ العلماء في نقد نظرية بطليموس، وظهرت مدارس جديدة مثل مدرسة مراغة التي أسسها نصير الدين الطوسي.
- وضعوا أساس المنهج التجريبي القائم على القياس والتجربة بدلاً من الاعتماد على العقل وحده.
- طوّروا نماذج رياضية بديلة، مثل نموذج ابن الشاطر الذي اقترب كثيرًا من نظرية كوبرنيكوس لاحقًا.
- شهدت هذه المرحلة بناء المراصد الكبرى مثل:
- مرصد مراغة في إيران على يد نصير الدين الطوسي.
- مرصد سمرقند بقيادة أولوغ بيك.
- كما طوروا آلات الرصد وصمموا الجداول الفلكية (الأزياج)،
- أجروا قياسات لتحديد حجم الأرض ومحيطها. وأثبتوا دوران الأرض.
4. مرحلة الانتقال والتأثير في النهضة الأوروبية (القرن التاسع الهجري / الخامس عشر الميلادي وما بعده)
- مع تراجع الحضارة الإسلامية، انتقلت المعارف الفلكية إلى أوروبا عن طريق الأندلس وصقلية.
- اعتمد الأوروبيون على كتب علماء المسلمين، مثل:
- زيج الطوسي.
- أعمال ابن الشاطر التي أثرت في كوبرنيكوس.
- ساهمت هذه العلوم في انطلاق الثورة العلمية الأوروبية.
أشهر علماء الفلك في العالم الإسلامي
مقدمة:
قدّم العلماء المسلمون القدامى مساهمات عظيمة في علم الفلك، حيث جمعوا بين الرصد الدقيق، والحسابات الرياضية، وتطوير النظريات الفلكية. اعتمدت أعمالهم على الملاحظات العلمية والمنهج التجريبي، وأثرت لاحقًا على النهضة الفلكية في أوروبا.
اسم العالم | فترة حياته | أهم إنجازاته | تأثيره على علم الفلك |
---|---|---|---|
البتاني | 858–929م | تصحيح جداول بطليموس، ابتكار زيجات دقيقة | أسس الفلك الرصدي الدقيق، اعتمدت أعماله لقرون |
الحسن بن الهيثم | 965–1040م | أبحاث في البصريات والفلك، تفسير الكسوف والخسوف | دمج البصريات بالفلك، وضع أسس الرصد العلمي |
نصير الدين الطوسي | 1201–1274م | مؤسس مدرسة مراغة، تصحيح نموذج بطليموس، مرصد مراغة | طور المنهج التجريبي للفلك، أثر على علماء أوروبا |
ابن الشاطر | 1304–1375م | تصحيح جداول بطليموس، نموذج حركة الكواكب | قدم نموذجًا يشبه كوبرنيكوس، أسهم في تطور الفلك الأوروبي |
أولوغ بيك | 1394–1449م | مرصد سمرقند، جداول دقيقة لمواقع 1000+ نجم | ساهم في تحديد مواقع النجوم بدقة مذهلة |
أهم إنجازات المسلمين في علم الفلك
- وضع أسس حساب مواقيت الصلاة ورؤية الأهلة.
- ابتكار آلات فلكية دقيقة مثل الإسطرلاب.
- وضع جداول فلكية دقيقة لتحديد مواقع النجوم والكواكب.
- قياس محيط الأرض بدقة مذهلة قريبة من القيم الحديثة.
- التأكيد على الطبيعة العلمية للفلك وفصله عن التنجيم.
يقول المستشرق جورج سارتون: “إن بحوث العرب والمسلمين في الفلك كانت حجر الأساس للنهضة الفلكية الكبرى التي قادها كوبرنيكوس وجاليليو”.
ويقول (شكات) في كتابه (تاريخ الرياضيات): كانت قياسات علماء العرب والمسلمين في الفلك إلى حدّ كبير أصح من قياسات اليونان .
لقد كانت رحلة علم الفلك في الحضارة الإسلامية نموذجًا فريدًا في تاريخ العلوم؛ إذ لم يكتفِ المسلمون بالنقل والترجمة، بل أبدعوا وأضافوا وصححوا، حتى وضعوا اللبنات الأولى للمنهج العلمي التجريبي، وأسهموا في بناء معرفة كونية دقيقة سبقت عصرها بقرون. وما كان هذا الإبداع ليظهر لولا التقاء الإيمان بالعلم، حيث وجّه القرآن الكريم العقول إلى التأمل في السماوات والنجوم والآفاق.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف استطاع هؤلاء العلماء القيام برصد هذه الحركات السماوية بدقة مذهلة قبل اختراع التلسكوب الحديث؟
الجواب يكمن في المراصد الفلكية الإسلامية، تلك الصروح العلمية التي لم تكن مجرد أماكن للرصد، بل مراكز بحثية متكاملة. ففي المقال القادم، سنأخذك في جولة شيقة بين مرصد مراغة وسمرقند ودمشق، لنكتشف معًا كيف صنع المسلمون ثورة علمية من فوق منارات المآذن وقباب المراصد.
وبكدة نكون وصلنا لنهاية رحلتنا عن علم: الفلك في الحضارة الإسلامية
في المقال القادم نتحدث عن: المراصد الفلكية في الحضارة الإسلامية
للحصول على مزيد من المعلومات برجاء متابعى على المنصات التالية:
الفيسبوك: https://www.facebook.com/profile.php?id=100088893776257
اليوتيوب: https://www.youtube.com/@ashrafrashad8031
التيك توك:https://www.tiktok.com/@ashraf.r1
الانستاجرام:https://www.instagram.com/ashraf.rashad.58/