النظام الاجتماعي والسياسي قبل الإسلام: كان قائمًا على القبيلة والعصبية، مع غياب الدولة المركزية، وانتشار الفوضى والحروب القبلية، حتى جاء الإسلام ليؤسس نظامًا يقوم على الوحدة، العدالة، والمساواة.
أولاً: دراسة البيئة التي ولد ونشأ فيها النبي ﷺ وخصائص هذه البيئة:
يؤكد ابن خلدون[1] أن هناك تأثير متبادل بين الانسان والبيئة التي يعيش فيها، فالعرب كانت فيهم خصال حسنة ومنها أنهم كانت لهم قدرة عجيبة على تحمل المكاره والصبر في الشدائد، وربما اكتسبوا ذلك من طبيعة بلادهم الصحراوية الجافة، قليلة الزرع والماء، وكانوا إذا استجار أحد الناس بهم أجاروه، وربما ضحوا بالنفس والولد والمال في سبيل ذلك، وكانت هذه الفضائل والأخلاق الحميدة رصيدا ضخما في نفوس العرب، فجاء الإسلام فنماها وقواها، ووجهها وجهة الخير والحق، ثم جاهد ﷺ في أصلاح العقيدة والجوانب الفاسدة في المجتمع العربي، وسنتناول في إيجاز بعض الصور للواقع الاجتماعي والسياسي للمجتمع العربي قبل الاسلام:
ثانياً: الواقع الاجتماعي لمجتمعات العرب قبل الاسلام:-
أصول العرب: قسم المؤرخون أصول العرب إلى ثلاثة أقسام:
العرب البائدة: وهي قبائل عاد وثمود والعمالقة ومن يتصل بهم وقد إضمحلت من الوجود قبل الاسلام.
العرب العاربة: وتسمى بالعرب القحطانية وهم عرب الجنوب، ومنهم ملوك اليمن،كسبأ وحمير.
العرب العدنانية: نسبة إلى عدنان الذي ينتهي نسبة إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وهم عرب الشمال، وموطنهم الاصلي مكة، وكانت قريش قد إنحدرت من كنانة، وهم أولاد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وانقسمت قريش إلى قبائل شتى، وبيت هاشم هو الذي إصطفى الله منه سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم.
النظام الاجتماعي قبل الاسلام: في سعي الإنسانية لبناء المجتمعات، تقرر لديهم أنه لا بد لهذا المجتمع من نظام عام، ينضوي تحته أفراد هذا المجتمع، يحدد حرياتهم، وينظم العلاقةَ بينهم، ويجازي المعتدي منهم، ويثيب المحسن، وتكون له مجموعة من القواعد والأعراف، تحمد أو تذم عند أفراده، ولو نظرنا عبر العصور وعلى اختلاف الأمم، ونجد أن كل أمة اتخذت أساسا لها يقوم عليه النظام العام للمجتمع، وتستوحى منه القوانين والنظام الذي تسير بموجبه. فمُجتمع الفُرس قبل الإسلام جعلوا القوة والقومية الفارسية هي أساس نظام المجتمع، وجعل الرومان المال والنفوذ، أما العرب فكانت القبيلة، ولا شك أن كل مجتمع تأثر سلبا أو إيجابا بالأساس الذي وضعه؛ حسب صلاح أو فساد ذلك الأساس، وفيما يلي نستعرض بعض التنظيمات داخل القبيلة.
النظام القبلي: القبيلة هي جماعة من الناس تربطهم رابطة العصبية للاهل والعشيرة، وتعادل في وقتنا الحاضر الشعور القومي عند الشعوب، وإن كانت رابطة الدم فيها أقوى وأوضح من الرابطة القومية، ودستور القبيلة كان مجموعة من التقاليد والاعراف من موروثات الاباء والاجداد. وتعتبر القبيلة الوحدة السياسية عند العرب في الجاهلية، وإن كان الطابع القبلي أقل استقرارا من الحياة الملكية، حيث يمكن للحروب أن تشب بين القبائل بشكل مستمر لمختلف الأسباب سواء الاقتصادية مثل داحس والغبراء[2]، أو للحماية من اللصوص كيوم السلان، أو للشرف أو لدفع الظلم مما يولد حروبا مستمرة توقدها نار الثأر، وفي القبيلة كانت توجد بعض المناصب منها:
شيخ القبيلة: كان لكل قبيلة شيخ يختارونة من أشرف رجال القبيلة، وأشدهم عصبية واكثرهم مالاً واكبرهم سناً، وتتوفر فية صفات محمودة كالسخاء، والحلم والشجاعة، يقوم بأدارة شئون القبيلة، من خلال فض المنازعات، وإستقبال ضيوف القبيلة، وإجارة من يستجير بالقبيلة، أما في الحرب فهو يتقدم الصفوف، ويضع خطط الحرب، وعند انتهاء الحرب يقوم بالاشراف على توزيع الغنائم، ويتحمل بأسم القبيلة الديات التي قد تترتب على القبيلة، وعلية تحرير من يقع اسيرا من أفراد قبيلته، ورئيس القبيلة الناجح في إدارته، هو الذي يستمد رأية من رأي أشراف القبيلة ووجوها، ويمكن أن نطلق عليهم مشيخة القبيلة، وكان هناك ايضاً:
النقيب: وهي شخصية إدارية أقل أهمية من شيخ القبيلة، والرائد: ومهمته الادارية أن يبحث للقبيلة عن الماء والكلاء للنزول عليه، وهي مهمة خطيرة إذ عليها تتوقف حياة الماشية والانعام وهي عماد حياة القبيلة، وكان للشاعر شأن كبير في حياة القبيلة، وهناك العرافون والكهنة.
وانقسم سكان الجزيرة العربية في ذلك الوقت إلى نمطين من المعاش فرضتهما طبيعة بلادهم:
البدو: سكان الصحراء، وعماد حياة البدو الرعي وكانوا يعيشون على لحوم الابل والبانها، وقد كان البدو يعيشون صراعًا دائمًا بسبب قسوة البيئة التي وجدوا فيها نتيجة اضطرارهم الدائم إلى التنقل سعيا وراء الأمطار وخصوبة الأرض طلبًا لعيشهم ومرعى إبلهم وأغنامهم، وقد كان من نتائج هذا الأسلوب في حياة البدو أن تتجمع أفرادهم في وحدات قامت على أساس صلة الدم والنسب، وسميت هذه الوحدات بأسماء مختلفة كالعشيرة، والرهط، والقوم، والقبيلة، والحي.
الحضر: هم سكان المدن والقرى، وكانوا يعيشون على التجارة أو الزراعة أو أنواع الصناعة، والواقع أن حال الحضر ـ خاصة في الحجاز حيث ظهر الإسلام وانتشر، لم يكن أفضل من حال البدو من وجهة النظر السياسية، فرغم سكنى أهل الحجاز في مدن كبيرة نسبيا كمكة والطائف والمدينة ـ يثرب كما عرفت آنئذ ـ فإن العلاقات الفردية والاجتماعية كانت تحكمها في الغالب ذات القواعد التي تحكم العلاقات المماثلة لدى البدو، ولم تظهر في هذه المدن أو أي منها سلطة سياسية بالمعنى المعروف لهذه الكلمة إلى أن ظهر الإسلام ونشأت دولته في المدينة.
ثالثاً: الحالة الأخلاقية عند العرب في الجاهلية: عرف عصر ما قبل الاسلام في الجزيرة العربية بالعصر الجاهلي، والجاهلية هنا لا يتصورها البعض بمعنى الجهل الذي هو نقيض العلم أو الحضارة أو التقدم المادي، فالجاهلية هنا هي الجهل بالشرائع الحقة والاحكام العادلة والمثل العليا التي جاء بها الاسلام، ومن مظاهر الجاهلية عند العرب قديماً: تفشي شرب الخمر، مع أنه كان يؤدي إلى كثير من النزاعات بين الناس، كما تفشي الميسر (القمار) بصورة واسعة، وكثيرًا ما أورث الناس البغضاء والشحناء، يقول تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}[3]. وكان الربا عندهم من المعاملات الأساسية وقالوا: {إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}[4].
رابعاً: وضع المرأة في المجتمع الجاهلي: كان العربي في الجاهلية لا يكتفي بزوجة واحدة، إما بقصد إعالتهن أو لغرض سياسي عن طريق المصاهرة أو بقصد الآكثار من الذرية، وكان الزواج أنواعاً منها:
- زواج الصداق أو البعولة – زواج المتعة
- زواج السبي – زواج الاماء
- زواج المقت: وهو أن يتزوج الرجل زوجة أبية
- وهناك أنواع أخري من الزواج لم يكن يقرها المجتمع العربي مثل الاستبضاع، والمخادنة، والبدل، والشغار، والرهط.
- وكان العربي يؤثر البنين على البنات، وذلك لاعتماد العرب على الذكور في الصيد والغزو والحروب بجانب المحافظة على النسب، وكان عدد كبير من عرب الجاهلية يكرهون البنات، وقد بالغ بعض الناس قي بغضهم للبنات إلى حد الوأد، والموؤودة في لغة العرب يعني دفنها صغيرة في القبر وهي حية. {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}[5]
خامساً: الواقع السياسي للمجتمعات العربية قبل الاسلام: بحكم أن جزيرة العرب كانت ملتقى عدد من القارات ومعبر التجارة قديماً فلقد تعرضت شبة الجزيرة العربية لكثير من التحديات منها:
- عاثت جيوش الفرس في المنطقة وعبثت أكاسرتهم بمقدراتها وبلغوا بذلك قلب مصر حيناً، وأرض اليمن أحياناً وسواد العراق في أغلب الاحايين وفرض الفرس نفوذهم على البوابة الشرقية لجزيرة العرب وإتخذوا قطاعاً من أهلها من سكان الحيرة أتباعاً وجنداً جعلوا منهم وقوداً في صراعهم الطويل ضد الاغريق والرومان.
- وفي نفس الوقت فرض الاغريق فالروم البيزنطيين سلطانهم على قلب الامة مصر واتخذوا من عرب الشام الغساسنة أتباعاً وجنداً جعلوا منهم وقوداً في صراعهم مع الفرس.
- وحتى الاحباش من بني يكسوم فرضوا سلطانهم على عرب اليمن الحميريين في الجنوب، بل وكادوا أن ينجحوا بقيادة أبرهة الاشرم حتى في إحتواء القلب والوسط الصحراوي المقفر في عام غزوة الفيل.
- كانت جزيرة العرب محاطة من الشرق والغرب والشمال والجنوب، ولم يبق بمنجى من الغزو والاحتواء سوى ذلك القلب الموحش وهو وسط شبه الجزيرة العربية، الذي استعصى على الغزو حيناً، وصرف فقره الغزاة أحياناً أخرى، وهكذا كان العربي فريسة مهيضة الجناح، يتخطفة الأعداء.
- ولقد كان المجتمع العربي قبل الاسلام مجتمعاً مفككاً سياسياً، ينقسم إلى وحدات متعددة قائمة بذاتها، تمثلها القبائل المختلفة، فالعصبية في ذلك المجتمع قضت على فكرة الترابط السياسي، وقد بلغ من هبوط هذه الامة في حسابات الدولتين العظيمتين فارس والروم إلى درجة أن أحداً من قادتهم لم يضع في تقديراته أي حساب لهذه الامة المتمزقة.
- فقد كان عرب الجزيرة في نظرهم كماً مهملاً بحيث إعتمدتا على الدويلتين التابعتين لهما، فقد كان الغساسنة في جنوب بلاد الشام في نظر البيزنطيين ضمانة لهم ضد الغزوات التي قد تأتي من جزيرة العرب وكان المناذرة في جنوب العراق في نظر الفرس ضمانة لهم ضد مثل هذه الغزوات الصغيرة المحتملة.
سادساً: الواقع السياسي في مكة قبل الاسلام: كانت طبيعة الحكم داخل المجتمع المكي يعتمد على النظام العشائري، حيث يتشارك أعيان تلك العشائر القوية في تلك المدينة بالحكم عبر النقاش، تشير المصادر إلى الدور المهم الذي قام به كل من قصي بن كلاب[6] و عبد مناف و هاشم بن عبد مناف في تكوين النظام الاداري في مكة، فقد إستطاع قصي أن يجمع قبائل قريش من الشعاب ورؤوس الجبال بعد أن استولى على مكة و انتزعها من القبائل القحطانية، ولم يكن أهل مكة يخضعون لحكم ملكي أو وراثي، فليس هناك ملك متوج أو رئيس واحد يحكم وإنما هناك شخص بارز في الملأ، ولا يستطيع أن يقرر أمراً بعيداً عن شيوخ القبائل.
دار الندوة: أسسها قصي بن كلاب عام 475 ميلادية، كمركز للحكم والادارة، وطبقاً للنظام القبلي فقد كانت تغص بشيوخ الاقوام، فلا يدخلها إلا من بلغ سن الاربعين، يلتقي فيها سادات القوم وأعيانهم وهم يمثلون العشائر والقبائل المختلفة، يناقشون الشئون العامة السياسية والاقتصادية للقبيلة والأمور الداخلية كفض المنازعات بين الأفراد والأمور الخارجية مثل الحروب وعقد الأحلاف وتنظيم التجارة، دون الخضوع لقانون مكتوب أو دستور منظم. أما فيما يتعلق بمكة فبحكم اتصالها بالعالم الخارجي عن طريق الرحلات التجارية التي كان ينظمها تجارها مرتين في كل عام، وكذلك بسبب وجود الكعبة فيها ووفود الحجيج إليها في كل عام، عرفت نوعًا من التنظيم الذي عهد بمقتضاه لبعض قبائل قريش أو بطونها ببعض المناصب على النحو التالي:
مناصب قريش قبل الإسلام: وكانت جميعها بيد قصيوالذي قام في أواخر حياته بتوزيع هذه المسئوليات بين أولادة وبمرور الوقت أستقرتالمسئوليات كالاتي:
الحجابة (مفاتيح الكعبة) والندوة: سدنة الكعبة: هم حجابها الذين يقومون على خدمتها ويتولون أمرها ويفتحون أبوابها ويغلقونها، وقد كانت السدانة والحجابة في مكة لبني عبد الدار أكبر أبناء قصي بن كلاب، ولما فتحت مكة، أبقاها النبي مع عثمان بن طلحة .
اللـــــواء: حامل الراية وبه يستمد المقاتلون صمودهم في المعارك، وتحت ظل رايته يقاتلون، وعليها يجتمعون ويلتفون، وتولاه بني عبد الدار.
السقاية : وأستقرت فيبني عبد مناف، وأصبحت وظيفة السقاية بالغة الخطورة في ظل شح الماء خصوصاً بعد أن طمرت بئر زمزم، وكانت على عهد قصي توضع بفناء الكعبة، وينقل إليها الماء العذب من الابار وربما قذف فيها التمر أو الزبيب لكسر ملوحتها، وبعد حفر بئر زمزم كان عبد المطلب يقوم بالسقاية للناس، وقام بالسقاية بعدة ابنة العباس بن عبد المطلب عم رسول اللَّه ﷺ.
الرِّفادة: كان أول من صنع الرفادة: قصي بن كلاب حين قال لقومه: “يا معشر قريش! إنكم جيران اللَّه وأهل بيته وأهل الحرم وإن الحجاج ضيوف اللَّه وأهله وزوار بيته وهم أحق الناس بالكرامة، فاجعلوا لهم طعامًا وشرابًا حتى يصدروا عنكم ففعلوا” [7] فكانت قريش تجمع المال في كل عام، فتدفعه إلى قصي بن كلاب ليصنع به طعامًا للحجيج فيأكل منه من ليس له سعة ولا زاد معه، وكان يستمر طيلة أيام منى، وكان الذي يتولى الرفادة من بني هاشم هم الاغنياء، لانها تحتاج إلى مال وثروة، فوليها المطلب بن هاشم، ومن بعده عبد المطلب، وحين بُعث رسول اللَّه ﷺ كانت الرفادة للعباس بن عبد المطلب فأقرة النبي على ذلك[8].
هذه هي أهم المناصب التي ثبت وجودها لدى أهل مكة قبل الإسلام، وواضح من استعراضها أنها جميعًا مناصب دينية تجلب لصاحبها ذيوع الصيت، وحسن السمعة، والفخر بين قبائل العرب التي كانت جميعًا تقدس البيت الحرام وتحج إليه، ولا تُعتبر هذه المناصب دليلاً على وجود تنظيم سياسي أو تعتبر في ذاتها مناصب تضفي على صاحبها سلطة سياسية في مكة. واستطاع قصي بفضل هذة التنظيمات أن يجعل لمكة شخصيتها القبلية المميزة بين القبائل، ثم إن هذا النظام أتاح لمكة الافادة من بيتها العتيق، ومن وضعها التجاري الممتاز.
هكذا إستطاعت مكة أن تصل إلى نوع من التنظيم الاداري كان في جوهرة تنظيماً قبلياً، بينما لم يكن للمجتمع اليثربي من التنظيم الاداري ما كان لمكة، فكان لكل قبيلة نظامها وقيادتها، وكانت حياة العرب حتى في مكة لا تعرف أي تنظيم سياسي بالمعنى المتعارف عليه للتنظيم السياسي.
سابعاً: الواقع السياسي والعسكري للمدينة قبل الاسلام:
تأسست المدينة المنورة قبل الهجرة النبوية بأكثر من 1500 عاماً، وعرفت قبل ظهور الإسلام بإسم يثرب، شهدت يثرب ولفترة طويلة حروب ومعارك بين الأوس والخزرج بدأت بحرب سمير وانتهت بموقعة الفجار الثانية . عرفت يثرب عدداً من العقائد والديانات قبل الإسلام منها الوثنية واليهودية والحنيفية . وفي الجانب السياسي لتلك الفترة يرجح المؤرخون أن يثرب كانت في معظم عصورها القديمة مجتمعاً مستقلاً بنفسه أو شبه مستقل، وكانت في عهود قليلة تابعة لمملكة في الجنوب أو الشمال أو منطقة نفوذ لسلطة بعيدة عنها تدفع إليها إتاوة سنوية .
ثامناً: الناحية العسكرية ليثرب قبل الاسلام: كانت يثرب على شاكلة مكة، فهي بغير سور يحميها، وتعويضاً عن ذلك فقد ابتنى اليهود والعرب الحصون والاطام من الحجارة القوية، فكان اليهود يخزنون فيها أموالهم وثمارهم وكل غال لديهم، كحصون بني قريظة وحصن كعب بن الاشرف، وكان للعرب مجموعة من الحصون، وقد جعلت الحرب بين الاوس والخزرج يحافظون على هذه الحصون ويحصنونها، فكانوا يتحاربون على تلك الحصون والاطام،
وكان اليثربيون أهل قوة وجلد وصبر على الحروب، وكانت أخر حرب بينهم قبل الاسلام هي حرب بعاث، وقد أكسبتهم الحروب فيما بينهم مهارة عسكرية فائقة، جعلتهم يقولون يوم بدر “وما نكره أن تلقى بنا عدونا، وإنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء”[9]، وكانت العصبية من صفات العرب المذمومة، وقادتهم إلى حروب مستمرَّة بين القبائل؛ وكانت الحروب تشتعل لأتفه الأسباب، ويتساقط الضحايا بالمئات والآلاف، ومن أشهر الحوادث الحربية التي دارت رحاها بين القبائل العدنانية والقحطانية وعرفت باسم “أيام العرب”:
حرب البسوس: وهي التي نشبت بين بكر وتغلب؛ بسبب ناقة جرحت.
حرب داحس والغبراء: وقد وقعت بين عبس وذبيان وفزارة من جهة، واستمرَّت أربعين سنة.
حرب الفجار: ومن أشهر أيام العرب حرب الْفِجَارِ التي كانت بين قريش وكنانة من جهة، وقيس عيلان من جهة أخرى، وسُمِّيَت الفجار لما استحلَّ الحيَّان كنانة وقيس فيه من المحارم.
يوم بعاث: قامت بين الأوس والخزرج -أبناء عمومة- حروب استمرَّت طويلاً كان أشهرها يوم بعاث الذي انتهى لصالح الأوس.
هذا المجتمع كان بأشد الحاجة إلى نبي يأخذ بيده نحو طريق الخير ويهديه السبيل إلى الحق بعدما عاش بحالة من الجاهلية والبؤس والشقاء.
تاسعاً: أحوال العرب الفكرية قبل الاسلام: كانت أمة العرب لا تكتب ولا تحسب، إلا القليل، ومع أميتهم وعدم إتساع معارفهم فقد كانوا يشتهرون بالذكاء، والفطنة، ورهافه الحس، واشتهر العرب شهرة عظيمة بالشعر، واشتهر من بين القصائد العربية القديمة سبع قصائد، حصلت على جائزة التفوق في سوق عكاظ، وكتبت بحروف من الذهب على قماش من حرير وعلقت على جدران الكعبة، فلذا سميت بالمعلقات السبع. وترتب على إرتفاع شأن الشعر بين العرب علو منزلة الشاعر في القبيلة، والواقع أن العرب جعلوا الشاعر ركنا من ثلاثة أركان كانت تقوم عليها قوة القبيلة وهي: المهارة في الفروسية والنجاح في الكثرة العددية والنبوغ في الشعر، كما كان فيهم أطباء كالحارث بن كلدة، وكان طبهم مبنياً على التجارب التي إكتسبوها من البئية المحيطة بهم.
عاشراً: تطور الفكر الديني عند العرب في الجاهلية: رغم إيمان العرب بالله بأنه هو الرب الاعلى إلا أن عبادتهم كانت مشوبة برواسب من قديم ما قبل الطوفان، فاتخذوا إليه شفعاء ووسطاء وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إلى اللهِ زُلْفَى}[10]، وبمرور الأيام أصبحوا يعتقدون أنّ لهؤلاء “الشفعاء” قدرة ذاتية على النفع والضر، فتوجهوا إليها بالعبادة مباشرة من دون الله، واصبح لكل قبيلة صنم واشتهر من الهة العرب التي ورد ذكرها في القرأن: الانصاب الثلاثة القريبة من مكة والتي كانت على حد زعمهم لبنات الله الثلاث ففي مدينة الطائف كان يوجد نصب “اللاّت” وكانت ترعاة قبيلة ثقيف، وكانت “العزى” تعبد في وادي نخلة شرق مكة وكان إسمها يعني الجبارة، وتألف معبدها من ثلاث شجرات وصنم عظيم القداسة عند قريش،
- أما (مناة) إلهة القدر فكانت في بلدة قديد على الطريق بين مكة ويثرب، واتخذت بطن من همدان “يعوق” في صورة فرس، وكان لهذيل بن مدركة “سواع” ولقبيلة كلب القضاعي صنمها “ود” واتخذت بطون من طيئ صنم “يغوث” في صورة أسد، أما “نسر” فكان لذي القلاع بأرض حمير، وكان “هُبُل” أعظم أصنام مكة، وبلغ عدد الأصنام بالكعبة: ثلاثمائة وستين صنمًا من مختلف الأنواع والأشكال، ومن أعجبها (إساف) و(نائلة) وهما: رجل وامرأة من اليمن زنيا بالبيت الحرام فمسخهما الله أحجارًا، ومع مرور الزمن عبدهما الناس، ووضعوا أحدهما على الصفا، والآخر على المروة، وكانوا ينحرون ويقدموا القرابين للالهة بين الصنمين.
أما بعض عرب الحيرة فقد أخذوا عبادة النار (المجوسية) عن الفرس، وكذلك عرف العرب الزندقة، وانتقلت اليهم من الحيرة، ووجدت في قريش لاحتكاكهم بالفرس عن طريق التجارة. والزندقة نوعان: “زندقة ثنوية” وهي القول بالنور والظلمة، و”زندقة دهرية” لقول من يؤمن بها بالدهر. كما عرف العرب النصرانية واليهودية والحنيفية قبل ظهور الاسلام.
الخاتمة
وبذلك نكون قد وصلنا لنهاية موضوعنا عن: النظام الاجتماعي والسياسي قبل الإسلام والذي كان قائمًا على القبيلة والعصبية، مع غياب الدولة المركزية، وانتشار الفوضى والحروب القبلية، حتى جاء الإسلام ليؤسس نظامًا يقوم على الوحدة، العدالة، والمساواة.
في الحلقة القادمة سوف نتحدث عن: إقتصاد العرب قبل الاسلام فانتظرونا.
المراجـــــــــــع:
[1] (ابن خلدون: أشهر المفكرين المسلمين الذين تركوا بصمات على الدراسات النفسية والاجتماعية وهو أول المفكرين الذين قالوا بالعلاقة التبادلية بين الإنسان والمجتمع يؤثر ويتأثر).
[2] (كان سبب الحرب هو سلب قافلة حجاج للمناذرة تحت حماية الذبيانيين مما سبب غضب النعمان بن المنذر وأوعز بحماية القوافل لقيس بن الزهير من عبس مقابل عطايا وشروط إشترطها ابن زهير ووافق النعمان عليها مما سبب الغيرة لدى بنى ذبيان، وتصادف أن كان يوم سباق للفرس، اتفق قيس وحذيفة على رهان على حراسة قوافل النعمان لمن يسبق من الفرسين. كانت المسافة كبيرة تستغرق عدة أيام، أوعز واحد من ذبيان لنفر من أتباعه بأن يختبئوا في تلك الشعاب قائلا لهم: إذا وجدتم داحس متقدما على الغبراء في السباق فردوا وجهه كي تسبقه الغبراء فلما فعلوا تقدمت الغبراء. وحينما تكشف الأمر بعد ذلك اشتعلت الحرب بين عبس وذبيان، ودامت تلك الحرب أربعين سنة.)
[3] (المائدة: 91)
[4] (البقرة: 275)
[5] (التكوير: 275)
[6] (قصي بن كلاب بن مرة (400-480م) هو الجد الثاني لعبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وهو الجد الرابع للنبي r. حصل على نفوذ واسع في مكة. ويعتبر أشهر رئيس في قبيلة قريش في عصر ما قبل الإسلام، فقد أخذت قريش وقتاً طويلاً لكي تنتقل مع قبيلتها الام وهي كنانة من شمالي الحجاز إلى قرب مكة، وقصي بذكائة عرف كيف ينفصل بقريش عن بقية كنانة، وانتصر لقريش على باقي قبائل كنانة وخزاعة حينما أخرجهم من مكة، واستقر بقريش في مكة،
ووضع نظاماً محكماً، جعل من قريش أقوى قبائل العرب، وهو الذي جعل القرشيين حضراً دون أن يفقدوا أحسن خصائص البداوة، وكانت اليه السدانة والسقاية والرفادة والندوة ولواء الحرب، وخلفة إبنة عبد مناف بن قصي، وكان رجل سياسة وتدبير وعقد الاحلاف بين قريش وبقية القبائل و بين قريش والاحابيش، وأكد رئاسة قريش في الحجاز، ثم خلفهم هاشم بن عبد مناف: وكان رجل أعمال وتاجراً موهوباً وهو الذي وضع الاساس للقوة التجارية التي وصلت إليها مكة بعقد مجموعة من المعاهدات التجارية مع القبائل النازلة على طريق التجارة إلى الشام واليمن والعراق، لتأمين رحلة الشتاء والصيف وهو ما يعرف بالايلاف المذكور في القرأن الكريم.)
[7] (سيرة بن هشام م1 – ص:130، وطبقات بن سعد ج1 – ص: 73)
[8] (سيرة بن هشام م1 – ص: 135-136، وطبقات بن سعد ج1 – ص: 81-83)
[9] (سيرة بن هشام – م1 – ص:615)
[10] (الزُّمر: 3)
للحصول على مزيد من المعلومات برجاء متابعى على المنصات التالية:
الفيسبوك: https://www.facebook.com/profile.php?id=100088893776257
اليوتيوب: https://www.youtube.com/@ashrafrashad8031
التيك توك:https://www.tiktok.com/@ashraf.r1
الانستاجرام:https://www.instagram.com/ashraf.rashad.58/
