فرانسيس كيري

عمارة فلسفية واجتماعية: دراسة حالة فرانسيس كيري (بوركينا فاسو)

1. مقدمة

فرانسيس كيري (مواليد 1965 في بوركينا فاسو) يُعد من أبرز المعماريين المعاصرين الذين نجحوا في مزج البعد الاجتماعي والبيئي في عمارة تحترم السياق المحلي وتوظف المواد التقليدية بطرق مبتكرة. حصل كيري على جائزة بريتزكر 2022، ليصبح أحد الرموز العالمية للعمارة المستدامة.

تشتهر ممارسته (Kéré Architecture) بالتزامها بالمشاركة المجتمعية، والاعتماد على المواد المحلية مثل الطين (الأرض) والخشب، مع تصميمات تتمتع بجمالية بسيطة ولكن عميقة، ما يعكس فلسفته التي ترى أن العمارة ليست فقط بناءً ماديًا، بل عملية اجتماعية وثقافية.

2. السياق الشخصي والتكويني

نشأ كيري في قرية غاندو في بوركينا فاسو، وكان ابن شيخ القبيلة، حيث عانى من افتقار مدرسته إلى البنية التحتية، ما ألهمه منذ صغره فكرة بناء مدرسة في قريته.
حصل على منحة للدراسة في ألمانيا، وتخرّج من الجامعة التقنية في برلين (Technische Universität Berlin).
درس النجارة في شبابه، وهو ما ساعده لاحقًا على دمج الحرف اليدوية مع النظرية المعمارية، وهو ما كان يطبق في مدرسة الباوهاوس للعمارة.
أصبح كيري يحمل الجنسيتين البوركينية والألمانية، وأسّس في عام 2005 مكتبه المعماري Kéré Architecture ومؤسسة Kéré Foundation لدعم المشاريع المجتمعية.

3. الفلسفة المعمارية

3.1 البعد المجتمعي

كيري يرى أن تصميم المباني لا يجب أن يكون من أعلى إلى أسفل فحسب، بل بمشاركة المجتمعات المحلية. في مشروع مدرسته في غندو، شُرِك الأهالي في البناء وتدريبهم على تصنيع الطوب الطيني، مما خلق شعورًا بالانتماء والملكية.
كما أن ممارسته لا تهدف فقط إلى إنشاء مبانٍ، بل إلى تمكين المجتمعات وتمتين النسيج الاجتماعي.

3.2 الاستدامة البيئية

يعتمد بشكل كبير على المواد المحلية مثل الطين والطوب المحكم (laterite) والخشب، ما يقلل من البصمة البيئية للنقل والتصنيع.
كما أنه يبتكر حلول تهوية نشطة وسلبية تتناسب مع المناخ الحار في غرب أفريقيا، مثل الجدران الطينية والعزل الحراري الطبيعي.

3.3 الجمالية المحلية والمعاصرة

تصاميمه ليست تقليدية محضة، بل تمزج بين التراث المعماري الإفريقي واللغات المعمارية المعاصرة، فتظهر في مباني مثل البرلمان الوطني في بوركينا فاسو مزيجًا من الملمس الترابي والهياكل الحديثة.
كما أن فلسفته التصميمية تتضمن “التجريد البسيط والوظيفة العالية” إلى جانب احترام التقاليد المحلية.

4. أبرز المشاريع

4.1 مدرسة غاندو الابتدائية (Gando Primary School)

أول مشروع لكيري، تم إنشاؤه عندما كان طالبًا في برلين، بالتعاون مع أهل قريته لتوسيع الشبكة المحدودة من المدارس ، ومعالجة مشكلتين أساسيتين تعاني منهما العديد من المباني التعليمية في المنطقة: ضعف الإضاءة وسوء التهوية.

ابتكر فرانسيس كيري تصميمًا يعالج هذه المشكلات بشكل مباشر، ضمن المعايير التي حددتها التكلفة والمناخ وتوافر الموارد وإمكانية التنفيذ. الطين متوفر بكثرة في المنطقة ويُستخدم تقليديًا في بناء المنازل، لذلك تم استخدام خليط من الطين والإسمنت لصناعة طوب قوي هيكليًا. هذه الطوب سهلة الإنتاج وتوفر حماية حرارية ضد المناخ الحار. ومع ذلك، يجب حماية الجدران من الأمطار الغزيرة بواسطة سقف ممتد.

في بوركينا فاسو، تُعد الأسقف المعدنية المموجة حلاً شائعًا، لكنها تمتص أشعة الشمس المباشرة مما يؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة المباني من الداخل. حل كيري هذه المشكلة في تصميم مدرسة غاندو الابتدائية من خلال فصل السقف عن مساحة التعلم الداخلية، وإضافة سقف داخلي من الطوب الجاف.

مما يسمح بتهوية مثالية: يدخل الهواء البارد من النوافذ الداخلية، بينما يخرج الهواء الساخن عبر فتحات في سقف الطين. هذا يقلل بشكل كبير من البصمة البيئية للمدرسة من خلال الاستغناء عن أجهزة التكييف.

في هذا المشروع، تم الجمع بين التقنيات التقليدية وأساليب الهندسة الحديثة لإنتاج أفضل حل بنائي مع تبسيط عملية البناء والصيانة المستقبلية. ويُعزى نجاح المشروع إلى المشاركة الوثيقة للسكان المحليين في عملية البناء. بدعم من مجتمعه، وبفضل الأموال التي جُمعت عبر مؤسسة كيري، تمكن كيري من تحقيق أول مبنى له، والذي يمثل بداية مكتب كيري للهندسة المعمارية واستمرار التعاون مع مجتمعه في غاندو من خلال مؤسسة كيري.

فاز المشروع بجائزة Aga Khan للعمارة عام 2004، نظرًا إلى تصميمه المستدام والتشاركي.

4.2 القرية الأوبرالية (Opera Village) – بوركينا فاسو

بمقاييسها الزاويّة المهيبة المصنوعة من الطين واللاتيريت وغيرها من مواد البناء المحلية، يندمج مشروع القرية الأوبرالية الثقافي والتعليمي، الذي صممه المعماري فرانسيس كيري، مؤسس ومدير مكتب كيري للهندسة المعمارية، والمخرج المسرحي وصانع الأفلام الألماني الراحل كريستوف شلينغينسيف، بهدف الجمع بين الفن والتعليم والبيئة.

يقع المشروع على مرتفعات منطقة لاونغو، وهي مجتمع ريفي قريب من العاصمة واغادوغو، ويُعد من التصاميم الرائدة التي ساعدت كيري في الفوز بأرفع جائزة في مجال العمارة، جائزة بريتزكر، الأسبوع الماضي.

تم بناء القرية الأوبرالية على مساحة 20 هكتار من هضبة جرانيتية، وهي مصممة على شكل حلزوني، وتضم 26 مبنى تحتوي على ورش عمل، مركز صحي، بيوت ضيافة ومدرسة.
وفي النهاية، سيقع في مركزها مسرح للعروض ومنطقة معارض مغطاة تتسع لـ 700 مقعد.

المفهوم الأساسي للقرية الأوبرالية هو فكرة شيء غير مكتمل ويتطور بشكل دائم؛ احترام أهمية البطء وتقدير مسار النضج. يظهر في ذلك التوازن بين سيولة الفن وطبيعة العمارة الرسمية. ورغم وجود خطة للمشروع، إلا أنه يتم بناؤه على مراحل، مع التكيف مع الاحتياجات أثناء التنفيذ.

التصميم، كما تخيله كيري وشنلينغينسيف عام 2009، يتكون من الهيكل الرئيسي لدار الأوبرا محاطًا بمساكن وورش عمل وأتيليهات ومدرسة ومركز صحي. ومنذ عام 2011، تم بناء عدد من المباني على مراحل، بالتعاون مع المجتمع المحلي، باستخدام الطين والخشب وحجر اللاتيريت الموجود في الموقع. أما دار الأوبرا التي لم تُبْنَ بعد في مركز القرية، فهي مصممة على شكل حلزوني، يرمز شكله المفتوح إلى حرية الإمكانات.

التصميم يدمج الثقافة المحلية مع البنية العالمية، مما يجعل المشروع رمزًا للتمكين الثقافي.

4.3 المجلس الوطني لجمهورية بنين

الموقع: بورتو نوفو، جمهورية بنين
الحالة: قيد الإنشاء
المساحة: 35,000 متر مربع
تاريخ البدء: 2019
العميل: جمهورية بنين

فكرة التصميم

المبنى يستلهم من شجرة الحوار (Palaver Tree)، وهي رمز تقليدي في غرب إفريقيا حيث يجتمع الناس تحت ظلها لاتخاذ قرارات جماعية. هذا المفهوم يعكس قيم الديمقراطية والهوية الثقافية للمجتمع البنيني.

الخصائص المعمارية

قاعة الجمعية الوطنية: تقع في الطابق الأرضي، بسقف مميز يعكس امتداد الهيكل الداعم للأدوار العليا.
التاج: يضم المكاتب والوظائف الإدارية، متراجعًا خلف واجهة عميقة لتصفية أشعة الشمس القوية.
الجذع المجوف: يشكل فناءً مركزيًا يسمح بالتهوية الطبيعية ودخول الضوء غير المباشر.
السلم الحلزوني: يربط القاعة بالأدوار العليا.
السطح: يضم تراسًا يوفر إطلالات بانورامية على المدينة والبحيرة.

المساحات العامة

جزء كبير من الموقع مخصص لحديقة عامة تعرض النباتات المحلية وتوفر مساحة ترفيهية واسعة.
الحديقة تمتد حتى قاعدة المبنى لتوفير مساحة مظللة للمواطنين، تعكس فكرة الحوار المجتمعي.
في الركن الجنوبي الشرقي، توجد ساحة عامة تمثل الواجهة المدنية للمبنى، مقابل المبنى القديم الذي شهد إعلان استقلال بنين.

المواد المستخدمة

الطين، الخشب، وحجر اللاتيريت، مع دمج تقنيات حديثة لضمان الاستدامة والتهوية الطبيعية.

الرمزية

المبنى يجسد التوازن بين الطبيعة والحداثة، ويعبر عن الانفتاح والشفافية من خلال دمج المساحات العامة مع الوظائف الحكومية.

4.4 تصميم جناح Serpentine Pavilion – لندن

في عام 2017، صمّم كيري جناح Serpentine في منتزه هايد بارك.
استلهم كيري تصميمه من الشجرة الكبيرة في مسقط رأسه غاندو، حيث يجتمع أفراد المجتمع تحتها للتأمل في أحداث اليوم. اعتمد التصميم على خلق هذا الإحساس بالمجتمع مع ربط الناس بالطبيعة.
يتميز جناح سيربنتين الذي صممه كيري بسقف واسع ممتد مصنوع من الفولاذ وغطاء شفاف يغطي كامل مساحة الجناح، مما يسمح بدخول ضوء الشمس مع توفير الحماية من المطر. تصطف عناصر التظليل الخشبية أسفل السقف، لتخلق تأثيرًا ديناميكيًا للظلال يتغير مع حركة الشمس والسحب.
أما نظام الجدران، فهو مصنوع من كتل خشبية مسبقة الصنع تم تجميعها في وحدات مثلثة تحتوي على فتحات صغيرة، مما يمنح المبنى خفة وشفافية. الجدران المنحنية مقسمة إلى أربعة أجزاء، لتتيح أربع نقاط دخول مميزة إلى الجناح. هذه الجدران منفصلة تمامًا عن السقف، مما يسمح بتدفق الهواء وحركة الزوار بحرية.
في مركز الجناح، يوجد فتحة كبيرة في السقف تربط الزوار مباشرة بالسماء. وعندما يهطل المطر، يتحول السقف إلى قمع يجمع المياه في قلب الهيكل. هذا الجمع الرمزي للمياه يبرز أهميتها كأحد الموارد الأساسية لبقاء الإنسان وازدهاره.

وفي المساء، يتحول السقف إلى مصدر للإضاءة، حيث تسمح فتحات الجدران برؤية الحركة والنشاط داخل الجناح من الخارج. بهذه الطريقة، يصبح جناح سيربنتين الذي صممه كيري منارة للضوء، ورمزًا للسرد والتواصل.
بعد فترة عرض ممتدة في لندن من يونيو حتى نوفمبر 2017، تم بيع جناح كيري إلى معرض إلهام في كوالالمبور، ماليزيا.

4.5 مركز صحي في مدينة ليو (Léo) – Léo Surgical Clinic and Health Centre بوركينا فاسو

تم بناء عيادة الجراحة ومركز الصحة في مدينة ليو لتخفيف الضغط عن المستشفى الإقليمي القائم وتلبية الاحتياجات الطبية للسكان المحليين. يضم المركز مرافق جراحية، جناحًا للمرضى الداخليين، ووحدة للولادة. وفي مرحلة لاحقة، تم استكمال المشروع بإضافة مساكن الأطباء في ليو في موقع مجاور.

يهدف التصميم إلى خلق جو شامل وبديل عن الصرامة المهيبة التي غالبًا ما تميز عمارة المؤسسات الصحية. يتكون المبنى من 10 وحدات معيارية مرتبة بشكل غير متصل لتشكيل مساحات مظللة ومتداخلة تمنح إحساسًا بالحيوية والترحيب. كما أن هذا النظام المعياري يقلل التكاليف ويسرّع عملية البناء.
تحمي الأسقف الكبيرة المتداخلة جدران الطين الخام خلال موسم الأمطار وتوفر الظل من حرارة الشمس النهارية. تم تصميم الأسقف خصيصًا لجمع مياه الأمطار بكفاءة. وفي منطقة لا يهطل فيها المطر إلا خلال ثلاثة أشهر في السنة، يعد جمع المياه وإدارتها أمرًا بالغ الأهمية لصحة ورفاهية المجتمع المحلي، وكذلك للبيئة. تم إدخال نظام لجمع مياه الأمطار والمياه الرمادية وتصفيتها لري النباتات والأشجار المحيطة. يتم إضافة الأكسجين لمعالجة المياه الرمادية باستخدام الطاقة الشمسية المجمعة من الألواح الموجودة في الموقع.

تعاون مكتب كيري للهندسة المعمارية بشكل وثيق مع فريق من العمال المحليين، وقام بتدريبهم على أساليب البناء المبتكرة. أصبحت المهارات والخبرات التي اكتسبوها موردًا قيّمًا يتم نقله إلى مواقع البناء المستقبلية، مما يعزز التنمية الاقتصادية والممارسات المستدامة في المنطقة.

5. التأثير والجوائز

فاز جائزة بريتزكر 2022، وهي من أرفع الجوائز المعمارية في العالم، “اعترافًا برؤيته الابتكارية في استخدام المواد المحلية والتصميم المندمج اجتماعيًا” Deutsche Welle+1
أول معماري من أفريقيا يفوز بجائزة بريتزكر، ما يمثل لحظة محورية في تاريخ العمارة العالمية. Voice of America
كيري يوصف بأنه مهندس ومُخدِم (architect and servant)، حيث يرى في العمارة وسيلة لتحسين ظروف المعيشة وليس مجرد إنتاج فني.
قدّم فلسفة عملية في العمارة ذات نطاق عالمي من خلال تأسيس Kéré Architecture ومؤسسة Kéré Foundation.

6. نقد وتحديات معماريته

6.1 التحديات التمويلية

مشاريع كيري غالبًا ما تعتمد على التمويل الدولي أو المنح، مما قد يحدّ من قدرة تعميمها في جميع المناطق المحتاجة.
الاعتماد على التبرعات أو الدعم المجتمعي يفرض محدودية على نطاق تنفيذ بعض المشاريع الكبيرة.

6.2 صيانة المباني الترابية

استخدام الطين ومواد محلية يعني أن بعض المباني تحتاج صيانة منتظمة للحفاظ على الجودة.
في بعض المناخات، قد تواجه الجدران الطينية تحديات تتعلق بالرطوبة أو التآكل.

6.3 التوسع والتنفيذ الكبير

مشاريع صغيرة مثل مدارس أو مراكز صحية تناسب رؤية المشاركة المجتمعية، لكن تنفيذ مباني ضخمة مثل الجمعية الوطنية قد يواجه صعوبات إدارية، هندسية أو اقتصادية.
التوازن بين الجمالية القومية والبنية التحتية الحديثة قد يطرح صراعًا تصميميًا.

7. الخلاصة

ديبيدو فرانسيس كيري يمثل نموذجًا معماريًا حديثًا تركيزيًا على الإنسان والمجتمع والبيئة. من خلال استخدامه الذكي للمواد المحلية والمشاركة المجتمعية في البناء، يقدم كيري رؤية عمارة مستدامة ذات معنى إنساني عميق. إن تكريمه العالمي (مثل جائزة بريتزكر) ليس مجرد اعتراف بفنٍ معماري، بل بإيمان طويل الأمد بأن العمارة قادرة على التغيير—ليس فقط في شكل المباني، لكن في حياة الناس.

كيري لا يبني فقط مبانٍ، بل يبني أملًا، هوية مجتمع، وإرثًا معماريًا يؤمن بالجذور بقدر ما يؤمن بالمستقبل.

المراجع: