عمارة ما بعد الحداثة -ج1

العمــــــــارةهي وعاء الحضارة، وتمثل الهُوية الثقافية والمستوى الإبداعي والجمالي للإنسان، ولقد وصلت الحداثة في العمارة الغربية حد التطرف في الانقطاع عن التقاليد وعن الطبيعة وعن الإنسان، حتى انقلبت المدينة الحديثة إلى مجموعة من الكتل الهندسية المجردة، حيث أدي مفهوم الطراز الدولي إلي تشابه المباني حتى بات من الصعب أن تفرقها عن بعضها وإلي خلق نوع من الملل الرتيب من رؤية الأشكال المتشابهة وفقدت العمارة الخارجية طابَعها التقليدي الذي عرف في أوروبا منذ العصور الكلاسيكية إلى عصر النهضة والباروك  ، مما أدي إلي ظهور اتجاه جديد في مطلع الستينات من القرن العشرين ينادي بالحنين إلي الماضي والعودة إلى الهُوية أي العودة إلى الطابَع والشكل المعماري المنسجم مع البيئة والجوانب الإنسانية، وينادي بإنعاش الذاكرة التاريخية والقومية التي تحدد الهُوية المعمارية شكلاً وإبداعا وعمارة ما بعد الحداثة تتضمن أشكالا معمارية حديثة تحمل دلالات رمزية مبالغ فيها مشوبة بالمتناقضات كما تتضمن عمارة ما بعد الحداثة تيارات متعددة انتقل روادها من تيار إلي أخر الأمر الذي أدي إلي غموض معناها وإثارة الجدل حولها وسنعرض فيما يأتي أعمال  بعض المعماريين الذين يمثلون الاتجاهات المختلفة.

مدرسة الحداثة المتأخرة Late Modernism في الفترة من   1945 -1980 أعادت إحياء عمارة الحداثة وتمثل استمرار لتطور الفكر المعماري لحركة الحداثة، وتسمى أحيانا بالهاي تيك أو بعمارة التقنية العاليةArchitecture. High-Tech ، واعتمدت هذه الحركة على عدة مبادئ وهي:

  1. لويس كان Louis Kahn 1901-1974

من معماري الجيل الثاني وواحد الذين بذلوا جهودا جبارة لتطوير العمارة وتقديم فكر جديد متفهما للتكنولوجيا المتاحة والسائدة في المنطقة التي يتواجد فيها المبني  اتسمت أعماله بالوضوح من خلال التكوينات الناتجة عن فهم الغرض المنفعي للمبني  والصراحة وبالاعتماد علي المواد المحلية والطبيعية علي طبيعتها لا تغطيها أي طبقة بياض كالخرسانة والطوب الأحمر بالإضافة إلي استخدام الزجاج مما أعطي مبانيه شعورا بالقوة أو ما يسمي البروتالزم (الوحشية) ويتضح استخدام العمارة المحلية في مبني البرلمان المشهور في بنجلادش والذي أطلق علية في حينه أجمل مبني في العالم في أفقر دولة في العالم.

رفع لويس كان شعارا مشهورا هو ترك المبني كما يشاء أن يكون “Building as it wants to be”   اتبع لويس كان مبدأ فصل الفراغاتففي مبنى معهد سالك للدراسات البايولوجية

والذي قام فيه لويس كان بتقسيم المبني إلي ثلاثة أنواع من الفراغات هما فراغات الخدمة والفراغات المخدومة بحيث تنفصل الفراغات التي تقوم بالخدمة ( المصاعد – السلالم – أبيار التهوية وما إلى ذلك ) عن الفراغات المخدومة.

وقد وضع لويس كان معادلة لنهجه التصميمي وهي الإدراك     Belief  فالشكل Form ثم يلعب الإلهام Inspiration دورة في إنضاج الفكرة ثم يأتي دور المؤسسة Institution أو العميل الذي نحصل منة علي المتطلبات الخاصة بالمساحة وهذا النهج هو الذي حقق خصوصية لإعماله وان كان يعاكس الدورة الاعتيادية للعملية التصميمية التي خاضها معماريو الحداثة من الرعيل الأول من أمثال جروبيوس الذين أكدوا ضرورة إبعاد أية فكرة تصميمية مسبقة للشكل المعماري قبل البدء بالعملية التصميمية.

2. المعماري ايرو سارنين Eero Saarinen 1910-1961 (التوجه التعبيري المتفرد)

أمريكي ولد في فنلندا اخذ ايرو سارنين شهرته من والدة المهندس المشهور اليل سارنين Eliel Saarinen  1873-1950وفي عام 1937 اشترك سارنين الأب والابن في عمل مكتب معماري، وبعد الحرب العالمية الثانية أصبحا اشهر مهندسين معماريين وتندرج أعماله تحت عمارة الحداثة المتأخرة، وظهرت شهرة سارنين الابن في أعمالة الأخيرة مثل مبني T.W.A في مطار كيندي الدولي بنيويورك الذي كان يتعامل فيه مع السقف علي أنه قطعة بلاستيكية حيث حاول إبراز الشكل الرمزي من خلال التالي:

وكانت أخر أعمال ايرو سارنين والتي كانت قبل وفاته مباشرة مطار دالاس الدولي وهو المطار الدولي للعاصمة واشنطن وتميزت أعماله بتغيير أسلوبها حسب البرنامج الوظيفي لكل مشروع عن الأخر تماماً فقد كان له أسلوبه التعبيري المبالغ فيه في بعض الأحيان.

3. المهندس المعماري الصيني الأمريكي ليو مينج بي Ieoh Ming Pei  

انتقل إلى الولايات المتحدة وواصل تعزيز مهاراته في التصميم من خلال التعلم من أساتذة مثل Le Corbusier وأحيانًا فرانك لويد رايت.

واجة Pei بعض العنصرية خلال حياته المهنية بسبب تراثه الصيني، والجدل حول أعمال التصميمية الحداثية وبالرغم من ذلك فقد حصل على الجائزة الأكثر تميزا التي يمكن ان يحصل عليها المهندس المعماري وهي جائزة بريتزكر عن أعماله في عام 1983.

صمم العديد من المباني المؤثرة، ومن أكثر المشاريع ذائعه الصيت ل Pei هوي: هرم الزجاج والفولاذ في متحف اللوفر، مبنى دالاس، متحف الفن الإسلامي في الدوحة، مكتبه كينيدي، برج بنك الصين ومشاريع اخري كثيره.

هرم اللوفر: Le Grand Louver Pyramid من تصميم المعماري l.M.Pei  يرى النقاد أن هرم Pei الحداثي كان متناقضًا بشكل صارخ مع الهندسة المعمارية الكلاسيكية لعصر النهضة في المتحف الأصلي، و رمزية الهرم لا تتناسب مع السياق لأنه “يجعلك تفكر في مصر”، وبالرغم من هذه الانتقادات التي أعقبت بنائه، يتفق معظم الزوار اليوم على أن هرم اللوفر هو مدخل كبير مناسب لأكبر متحف في العالم.

مبنى دالاس: Dallas city hall من تصميم المعماري l.M.Pei – تم بنائه في عام 1978 ويبلغ ارتفاع المبنى 7 طوابق، ويندرج تحت عمارة الحداثة المتأخرة، لوجود التلاعب بالكتل من خلال تشكيل نحتي بسيط متمثل في شكل الهرم المقلوب، حيث يميل المبنى للخارج، بحيث أن كل طابق يزيد عرضة عن الاخر بمقدار حوالي 2.8 متر، والمبنى محلول بيئياً بشكل جيد، لتوفر التدرج في الظلال المناسبة لتخفيف حدة الشمس في تكساس، وتغيير إستخدام اللون الأبيض.

4. دار أوبرا سيدنيللمعماري الدنماركي يورن أوتزون:

تعد واحدة من المباني الأكثر تميزا في القرن العشرين، ومن أشهر مراكز الفنون المسرحية في العالم. وقد أدرجت ضمن مواقع التراث العالمي لليونيسكو عام 2007، وتندرج تحت عمارة الحداثة المتأخرة، لوجود التلاعب بالكتل. أعلن في العام 1957 أن المشروع الفائز بالمسابقة العالمية لتصميم الاوبرا هو المعماري الدنماركي يورن أوتزون Jorn Utzon تم البدء في البناء عام 1958، ولم تكن الفكرة التصميمية للمعماري قابلة للتنفيذ أنذاك، لكن تم تنفيذها بعد ذلك وافتتحت في العام 1973، أي أن بناءها استغرق 15 سنة. وكان التحدي الأكبر هو بناء تلك الأصداف التي أرادها أوتزون أن تعبر عن أشرعة السفن المبحرة في المحيط، بحيث تؤوي الصالتين الرئيسيتين دون أن يحتوي فراغ الصالتين على عناصر إنشائية أو أعمدة.

5. المعماري بول رودلف   1918 – 1997       Paul Rudolph 

معماري أمريكي وعميد كلية ييل لمدرسة العمارة، اشتهر بتصاميمه المعمارية التكعيبية، وهو ذو صبغة تجريدية، عُرِف بإظهاره للسطح الخرساني. ومن أشهر أعماله مبني كلية ييل للعمارة والفنون.

مبني الفن والعمارة: وهو مبنى ينتمي إلى حرم جامعة ييل، عمل رودلف على إظهار قوة وصلابة السطح الخرساني من خلال تأكيده على الاتجاه الراسي ويعتبر المبنى أحد أقدم وأفضل الأمثلة على العمارة الوحشية في أمريكا.

ومن أقوال المعمار رودلف:

لا يمكن حل جميع المشاكل في المبني الواحد، فهذه إحدى خصائص القرن العشرين فالمعمار ميز فان دورة مثلا استطاع أن ينتج مباني رائعة لأنة أهمل عدة جوانب أخري في المبني . فلو عمل ميز علي إيجاد حلول لمعظم المشاكل التي تواجهه المبني لكانت مبانيه اقل أهمية مما هي علية اليوم.

6. المعماري مايكل جريفز  Michael Graves  (1934- )

ولد مايكل جريفز في ولاية أنديانا 1934 ودرس في جامعة هارفارد،  وفي 1964 أسس مجموعة جريفز في برينكتون بنيوجرسي يعد مايكل جريفز بحق احد اشهر المعماريين في العالم اتصفت عمارته بتصوراتها التكعيبية، والهيكل الإنشائي ذي التوجه المركب وتعدد التصورات الفضائية إلي جانب تعددية الرموز الموظفة في تكويناتة. وقد ارتبطت عمارته بالتاريخية متأثراً بأعمال لودوكس إلي جانب العمارة الرومانية والإغريقية كما ارتبطت عمارته بالبيئة الطبيعية حيث يعمل ضمن حضارة المنطقة السائدة فتظهر أجزاء مبانيه مرتبطة بالموقع بأسلوب رمزي

وتظهر قدرات جريفز في أسلوب توظيف اللغة المجازية حيث تتميز تصميماته بغناها الدائم بالألوان فمثلا اللون الأزرق يعبر عن السماء والماء فيظهر في مبانيه في السقوف والأرضيات عموما وفي الجدران أحيانا أما اللون الأصفر فهو مرتبط بأشعة الشمس ويوظف عادة في مواقع العناصر العمودية  إضافة إلي كونه قد صمم أهم المباني في العالم مثل مباني “بور تلاند” و”هيومانا” والمقر العام بـشركة والت ديزني” فلقد حقق قفزة مهمة في مقياس الرسم من خلال أعماله العديدة. كما قام جريفز بعملية استخلاص وتركيز للغة المعمارية من الإشكال التجريدية.

يعتبر عدد المباني التي اكتملت على يدي جريفز منذ أواخر الثمانينات، عدداً مذهلاً ولقد قام باستخلاص وتركيز للغة من الأشكال التجريدية. كما تظهر قدرات جريفز المتميزة في تصميم المباني العالية كما في مبني بورتلاند  الذي يعد مثالاً نموذجياً يعكس تيار ما بعد الحداثة مثلما مثلت مدرسة الباهاوس تيار الحداثة.                           

مبني بورتلاند يعكس الجانب الفني في عمارة ما بعد الحداثة من خلال استخدام عنصر التزيين بما يحمله من معان رمزية إلي جانب استخدام اللغة الصرحية التي ظهرت في المقياس العام للمبني فيظهر توظيف جريفز لعنصر حجر العقد الذي غطي الواجهة الأمامية للمبني وبتداخل واضح مع التكوين العام للكتلة مستخدماً الألوان فساهم في عملية الشد البصري من جهة وتضليل صورة الهيئة ألمكعبه لكتلة المبني من جهة أخري.

كما يظهر أسلوب مزج العناصر الحديثة مع أخري تقليدية في أسلوب معالجة النوافذ حيث يجمع جريفز بين النوافذ الواسعة الحديثة والنوافذ الصغيرة التقليدية التي ظهرت بإيقاع منظم مستخدما لغة التناظر الكلاسيكي فيها.

تتضمن عمارة ما بعد الحداثة اتجاهات مختلفة ومتنوعة جزء منها يعمل باتجاه الحداثة لأسباب تتعلق بالتكنولوجيا الحديثة والجزء الأخر مرتبط بالماضي لأسباب تتعلق بالرموز والدلالات كما اشرنا في بداية المقال إلي بدايات حركة ما بعد الحداثة التي كانت في مطلع الستينات من القرن المنصرم وأصبحت الحركة في الثمانينات شائعة ومقبولة عند اغلب ممارسي المهنة في العالم الذين قرروا هجر الحداثة بسبب ما تحمله من تقاليد مألوفة سببت الضجر والملل لديهم ونلاحظ أن الفكر الجديد لبعض المعماريين ينادي بالعودة إلى الأصول التاريخية لتطوير عمارة جديدة لها جذور مرتبطة بثقافة المنطقة. ولذلك دعا أصحاب هذا الفكر للعودة إلى العمارة الإغريقية والرومانية لكونهما تمثلان أصل الحضارة الأوروبية والأمريكية. فبدأ المعماريون الجدد بدراسة العمارتين الإغريقية والرومانية ليبنوا طرازاً جديداً ينبع منهما ويعبر عن روح العصر الحديث في آن معاً. من هذا المنطلق بدأت عمارات متنوعة بالظهور تفصح عن رؤى جديدة ومتنوعة كترجمة عملية للفكر الجديد.

نستكمل في المقال القادم بإذن الله الجزء الثاني لعمارة ما بعد الحداثة و الجهود التي قام بها الجيل الثاني من المعماريين لتقديم فكر جديد وكيف استطاعوا أن يتخلصوا من فكر وسيطرة الجيل الأول ليخلقوا لأنفسهم اتجاها مخالفاً قائم بذاتة من أمثال لويس كان والمعماري الياباني كينزو تانكو ومجموعة أركيجرام.

بقلم : مهندس معماري اشرف رشاد عبد الفتاح – المقال الأصلي نشر بمجلة المجلس العدد الثالث- السنة الرابعة- مارس 2007

المراجع:

تطور الفكر المعماري في القرن العشرين          د. محمد محمود عويضة

الأسلوب العالمي في العمارة بين المحافظة والتجديد   شيرين إحسان شيرزاد

Exit mobile version