العصر الذهبي للحضارة الإسلامية: المرحلة الثانية – مرحلة الازدهار – مرحلة الإبداع
إستمرت هذه المرحلة زهاء ثلاثة قرون، حيث مثل القرن الثالث والرابع والخامس للهجرة (من منتصف القرن الثامن حتى القرن الحادي عشر للميلاد) بزوغ فجر العصر الذهبي الذي تفوق فيه العرب والمسلمون في كل ميادين الحضارة وتزعموا العالم خلالها في ميادين الرياضيات والكيمياء والطب والفلك والزراعة والاقتصاد والصناعة والأدب والملاحة والفلسفة والعلوم والتكنولوجيا، وتتلمذ الأوربيون على أيديهم في كل ميادين العلم والمعرفة. ولقد أسهمت عدة عوامل في الوصول للعصر الذهبي للحضارة الإسلامية – مرحلة الازدهار والابداع – يمكن ان نجملها في النقاط التالية:
- تشجيع الخلفاء والسلاطين والامراء والوزراء وكبار رجال الدولة للعلم والعلماء:
- دعم المجتمع الحركة العلمية والثقافية وشجعت كل طبقات المجتمع من حكام ومن نهج نهجهم من ذوي الجاة واليسر بالاكثار من انشاء دور العلم المختلفة وترجمة الكتب وتاليفها ووقف الاوقاف الكثيرة على دور العلم مما ساهم في ازدهار الحركة العلمية والفكرية في الحضارة الاسلامية في المشرق والمغرب على حد سواء.
- عمل الخلفاء على إذكاء عامل التنافس بين الجماعات العلمية من خلال كثرة العطايا والهبات التي كانت تمنح للعلماء الامر الذي جعل العلماء يتنافسوا لتقديم الدليل على رسوخ قدمهم في المضمار العلمي.
- لم يكن إهتمام الخلفاء مقصورا على الحكمة والفلسفة والعلوم العقلية فقط، بل كانوا يهتمون بالادب والتاريخ والفقه والكلام وايام العرب وكانوا يعقدون المجالس العلمية ويشاركون فيما يدور فيها من العلوم والاداب والمعارف، ويتكلم العلماء فيها بكل حرية وصراحة فيما يبدو لهم من أمور علمية.
- يذكر ابن خلدون في مقدمته أن بغداد كانت المركز الثقافي لبلدان الشرق وسوقا تجاريا عالميا تتعامل مع نيسابور وبخارى و طاشقند و القاهرة و القيروان و قرطبة، وكانت بغداد السوق المالية المزدهرة متحكمة في دينارها الذهبي ودرهمها الفضي، وفي الوقت نفسه كانت انهار الثقافة تتدفق على بغداد من ينابيعها القديمة في مصر وبابل والشام لتفجر بركان الأبداع في عاصمة الإمبراطورية الإسلامية حتى غدت منارا للإشعاع الفكري ورائدة للنهضة الثقافية، فقد ادخل الخليفة العباسي المأمون الى بلاطه اساطين العلم والمعرفة من شتى الأرجاء لينشروا ما عندهم ويترجموا الكتب اليونانية واللاتينية والفارسية و السنسكريتية والهندية والسريانية إلى اللغة العربية وبذلك اغنوا البلاد بعلمهم الوافر ومعرفتهم الواسعة و إبداعاتهم الخلاقة.
وبينما كانت أوربا تعيش في ظلام القرون الوسطى تعاني شعوبها منذ سقوط روما أقسى صنوف العذاب من الفقر والجهل والمرض لفترة جاوزت أكثر من ألف عام، كانت العواصم في الوطن العربي الكبير كبغداد زمن العباسيين، والقاهرة زمن الفاطميين، وقرطبة زمن الأندلسيين، تموج بالأزدهار الحضاري الزاهي ساطعة أنوارها المعرفية لا على بلدان المنطقة فحسب، بل جاوزتها إلى البلدان الأوربية ودخلت جامعاتها.
2. إزدهار حركة الترجمة والاقتباس في الحضارة الإسلامية:
بفضل حركة الفتوح وما أسفرت عنه من اتساع دولة الاسلام وأستقرار المسلمين في الاقطار التي فتحوها، تلك الاقطار التي كانت مراكز حضارية مهمة قبل الاسلام فعندما فتح المسلمون فارس والعراق والشام ومصر في القرن السابع الميلادي واطلعوا على ما في هذه البلاد من مدارس، مثل مدرسة الإسكندرية والتي تأسست 331 ق.م، ومدرسة أنطاكيا شمال الشام تأسست 300 ق.م وكانت تحتضن حضارة اليونان وفكرهم الافلاطوني، ولم يكونوا على جهل بهذه الثقافات جهلا تاما، لأن بعض المؤثرات الثقافية من المدارس السابقة تسربت إليهم.
وبفضل ما أثاره الإسلام من حماسة للعلم وحثهم على التسامح إزاء الديانات الأخرى أدى ذلك إلى تزود المسلمين بقسط نافع من الثقافات التي التقوا بها ولم يكن السبيل إلى معرفتها إلا بترجمتها.
عرف علماء العرب والمسلمين أن الحضارة الإنسانية ليست وقفاً على جماعة من الناس، بل إنها صرح عظيم أسهمت فية الأمم كلها في سلسلة متينة من الحلقات المترابطة، ولذلك ذكروا في مصنفاتهم بكل وضوح المادة المقتبسة من علماء الحضارات الأخرى أو ما يسمى بالمراجع اليوم.
اعتمد العرب والمسلمون على اليونانيين في الفلسفة والمنطق والطب والرياضيات والفلك والاجتماع، واستفادوا من الهنود في معالجة الأمراض ومعرفة خصائص العقاقير، ومبادئ الحساب والهندسة والموسيقى والفلك والنجوم، وفروع الرياضة الأخرى، ونقلوا عنهم وعن الفرس الحِكَم والقصص والأقوال المأثورة. لكنهم لم يقفوا عند حد النقل والترجمة أو التعليق والنقد، بل أضافوا الكثير إلى علوم الشعوب الأخرى، من رياضيات وفلك وطب وفلسفة وموسيقى، وغذوها بتجاربهم وأبحاثهم واكتشافاتهم التي لا تعد.
- وفي حين أن الترجمة في العصر الأموي اقتصرت على الكيمياء والفلك والطب، نجد أنه في العصر العباسي صارت أوسع نطاقا بحيث شملت الفلسفة والمنطق والعلوم التجريبية والكتب الأدبية.
- كان لتشجيع الخلفاء العباسيين ورعايتهم لحركة الترجمة دور كبير في تقدم وازدهار العلوم بعد ذلك، فقد فتحوا بغداد أمام العلماء وأجزلوا لهم العطاء وأضفوا عليهم ضروب التشريف والتشجيع بصرف النظر عن مللهم وعقائدهم. في حين أن حركة الترجمة في العصر الأموي كانت محاولات فردية لا يلبث أن تذبل بزوال الأفراد.
- غدت حركة الترجمة ركنا من أركان سياسة الدولة، فلم يعد جهد فردي سرعان ما يزول بزوال الأفراد سواء حكام أوغير ذلك بل أصبح أمرا من أمور الدولة وركنا من أركانها.
ولان حركة الترجمة تعتبر من أهم العوامل التي أدت الي أزدهار الحركة العلمية والفكرية فى العالم الاسلامى ولذلك سندرسها بشئ من التفصيل: هناك أراء مختلفة حول تطور حركة الترجمة في العصر العباسي، وأحد هذه الاراء هو أن حركة الترجمة قد تطورت عبر ستة مراحل رئيسية هي:
1-2 – الترجمة في عهد الخليفة أبا جعفر المنصور 2-2- الترجمة في عهد الخليفة هارون الرشيد
3-2- الترجمة في عهد المأمون 4-2- الترجمة فى عصر ما بعد المأمون
5-2- تأثير صناعة الورق في الحضارة الإسلامية 6-2- دور بيت الحكمة في حركة الترجمة
1-2 الترجمة في عهد الخليفة أبا جعفر المنصور: حكم من ( 136 – 158هـ / 753 – 774م):
في نهاية القرن الثامن الميلادي لم يكن بحوزة العرب من الثروة العلمية إلا ترجمة لموسوعة طبية وكتب فلكية ولكن لم ينته القرن التاسع إلا وقد تمثلوا كل علوم اليونان وأصبح لديهم علماء من الطراز الأول. فقد تعرفوا على مدرسة جنديسابور [1] التي لعبت الدور الرئيسي في الحركة العلمية التي كانت بغداد مسرحها كما زودتها بخميرة حركت العالم الإسلامي برمته، وأخذت حركة الترجمة إلى العربية تتسع وتزداد قوة في العصر العباسي.
- يعتبر المنصور أول خليفة عباسى يقوم على رعاية حركة الترجمة ويعمل على تشجيعها وهو أول من راسل ملك الروم يطلب منه كتب الحكمة فبعث إلية بكتاب إقليدس وبعض كتب الطبيعيات، وترجمت في عهده الكتب إلى العربية سواء من اليونانية أو السريانية أو الفارسية والسنسكريتية، وكان مرض المنصور واستدعاء الأطباء من جنديسابور على رأسهم جرجس بن جبرائيل (ت 160هـ / 777م) الشرارة التي إضاءات مشعل عصر نقل العلوم اليونانية والهندية والفارسية والسريانية والقبطية إلى اللغة العربية. فقد أمر المنصور طبيبة وكان عالما باليونانية والفارسية بترجمة بعض الكتب الإغريقية في الطب والفلك والتنجيم.
- وكان من أشهر التراجمة في عهد المنصور عبد الله ابن المقفع (ت 142هـ / 759م) الذي يقترن اسمه بترجمة كتاب “كليلة ودمنة” من الفارسية للعربية، ويذكر ابن النديم بأن الفرس ترجموا إلى لغتهم في غابر الزمان كتبا بالمنطق والطب نقلها ابن المقفع إلى العربية، ويؤكد ذلك وجود عدد كبير من الكلمات الطبية الفارسية التي بقيت مستعملة في الكتب العربية كما هي أو بعد تعديل بسيط.
- وفي سنة (156هـ / 772م) قدم على المنصور عالما بحركات النجوم والحساب من الهند ومعه كتاب يبحث في ذلك، فأمر الخليفة بترجمة الكتاب للعربية وأن يؤلف منه كتاب تتخذة العرب اصلا في حركات الكواكب والنجوم فتولى ذلك محمد بن إبراهيم الفرازي وعمل منه كتاب “السند هند الكبير” وهو أحد المذاهب الهندية في علم النجوم والفلك وبقي يعمل به إلى أيام المأمون.
- ويذكر ابن القفطي أن العرب نقلوا عن الهند كتبا في الموسيقى والحساب، وترجمت من اليونانية والسريانية كتب أرسطو في المنطق وكتاب المجسطي في الفلك، وكتاب اقليدس في الهندسة. ومن أبرز المترجمين في هذه الفترة يوحنا بن البطريق وقسطا بن لوقا ويوحنا ابن ماسويه وقد ألف هؤلاء النقلة كتبا كثيرة في الطب والفلك والفلسفة والرياضيات إضافة إلى ما ترجموه وشرحوه.
- ثم خفت حركة الترجمة في عهد ابنه محمد المهدي الذي كان قليل العناية بكتب الحكمة خاصة بعد انتشار حركة الزندقة[2] ببغداد، فقضى أكثر خلافته في تقصي اخبارهم والقضاء على دعاة هذه الحركة الهدامة، فضعفت حركة الترجمة على عهده.
2-2 الترجمة في عهد الخليفة هارون الرشيد: حكم من (170- 193 هـ / 786 – 809 م)
صار الخليفة هارون الرشيد على خطى جده المنصور، فوسع العمل وأكثر من التراجمة وجلب الكتب الإغريقية إلى بغداد إما عن طريق الشراء او الاستنساخ أوغنائم حرب، وشملت كتبا في الطب والهندسة والرياضيات والفلك والتنجيم.
- يعد عهد الرشيد من أزهي العصور التي مرت بها حركة الترجمة حتى مطلع عصر ابنه المأمون، فقد وصلت الترجمة في عهده حداً من التطور الكمى والنوعى لم تصل اليه من قبل، ولا نغفل في عهد الرشيد أيضا دور البرامكة في رعاية حركة الترجمة وعلي راسهم يحيى ابن خالد البرمكى، وعندما كثر أعداد العلماء في بغداد أنشأ لهم الرشيد دار الحكمة؛ لتكون بمثابة أكاديمية علمية يجتمع في رحابها المعلمون والمتعلمون وحرص على تزويدها بالكتب التي نقلت من آسيا الصغرى والقسطنطينية.
- لما فتح هارون الرشيد مدينتي عمورية وأنقرة أمر بالمحافظة على مكتباتها وانتدب العلماء والتراجمة من بغداد لاختيار الكتب القيمة منها والتي يندر وجودها عند غيرهم من الامم، فاختاروا الكتب النفيسة النادرة في الطب والهندسة والفلك ونقلوها إلى بغداد، وولى هارون الرشيد أمر هذه الكتب إلى يوحنا بن ماسوية (ت 243هـ / 857م) أكبر اطباء عصره وجعل له من يساعده بترجمتها.
- وكان في بيت الحكمة ما الفه العلماء والادباء في اللغة والتاريخ، قال الاصمعي: كان هارون الرشيد إذا نشط يرسل إلي فكنت أحدثة بحديث الامم السالفة والقرون الماضية، فبينما أنا احدثه ذات ليلة، فقال يا اصمعي: أين الملوك وأبناء الملوك؟ قلت يا أمير المؤمنين مضوا لسبيلهم، فرفع يديه إلى السماء ثم قال: يا مفني الملوك ارحمني يوم تلحقني بهم، ثم أمر بإحضار كتاب سير الملوك من بيت الحكمة فأمرني أن أقرأة عليه، فقرأت منه في تلك الليلة 6 أجزاء، ثم أوصاة الخليفة بالذهاب إلى إبن البختري للاستعانة به في كتابة ما كان بين أدم وسام بن نوح، ولم يكن هذا مدوناً في سير الملوك، فذهب إليه وأخبرة بأمر أمير المؤمنين، فأخذا كتاب المبتدأ ونسخا منه هذا الجزء ونسقاه، فنرى مما تقدم أن الاصمعي كان يؤلف في التاريخ وأنه أكمل كتابا كان في بيت الحكمة مستعينا بكتاب “المبتدأ” الذي كان في خزانة بيت الحكمة والفة الشعبي وابن المقفع للخليفة عبد الملك بن مروان[3].
2-3 الترجمة في عهد المأمون: حكم من (198-218هـ /813 – 833م)
- يمثل عهد المأمون عصر الازدهار العلمي حيث أصبحت بغداد أعظم منارة للعلم والمعرفة في العصور الوسطى، والعصر الماسى لحركة الترجمة وبرزت في هذة الفترة ظاهرة التخصص في الترجمة من اللغات المختلفة وكان التعريب من كل اللغات (الاغريقية – الفارسية – السريانية) الي العربية وقدم لكل مترجم عن كل كتاب عرَّبه زنته ذهبًا.
وقبل ان ينتهي عهد المأمون أصبح هناك إلمام جيد بعلوم الطب والفلسفة والرياضيات والتاريخ الطبيعي والفلك، كما اصبح في حوذة المسلمين أفضل ترجمات لمصنفات أبقراط وجالينوس وبطليموس واقليدس و ارسطاطاليس. - وفي زمن الخليفة المأمون كان أشهر التراجمة على الإطلاق حنين بن إسحق الذي يعد مدرسة كاملة إذ كان يشرف في بيت الحكمة على عدد كبير من المترجمين والنساخ ويصلح أخطاءهم ويزودهم بالكتب النادرة التي يجمعها بنفسه ويسعى للحصول عليها ويذكر أنه رحل في نواحي العراق وسافر إلى الشام والإسكندرية وبلاد الروم يجمع الكتب النادرة[4] .
- ترجم حنين بن اسحق جميع مؤلفات جالينوس العلمية للعربية، وعدة كتب لابقراط، وديقوريدس وجمهورية افلاطون والمقولات والطبيعيات لارسطو وترجم كتاب العهد القديم من اليونانية، ولم يكتف حنين بن إسحق بالترجمة بل قام بتأليف كتب في الطب والمنطق والطبيعة وفلسفة أفلاطون وأرسطو، ووضع الشروح لما ترجم ولخص المطولات وصحح تراجم السابقين.
- ولقد أسهم حنين بن اسحق في تطوير اللغة العربية وجعلها لغة علوم فهو لم يغن المصطلحات العلمية بإعطاء أشكال جديدة للكلمات أو باستعمال كلمات أجنبية فحسب ولكنه أدخل طريقة التحليل – التركيب التي جعلت من العربية أداة قادرة على التعبير عن أفكار مجردة معقدة وأن هذا الإنجاز عمل فلسفي من الطراز الأول يستحق كل تقدير لأنه لم يلق أية مساعدة من معجميين محترفين فقد كانوا في ذلك الزمن مهتمين بالشعر البدوي وبتفسير القرآن، ومن حسن الحظ أن هذه الحركة الجليلة التي قام بها طوال حياته ظلت تسير وتعمل بعد مماته على يد ولديه وتلاميذه[5] .
- إن أكثر ما ترجمه حنين كان من الكتب الطبية وخاصة كتب جالينوس الستة عشر (كان بعضها من نقل حبيش بن الحسن الاعسم، وهو أحد تلاميذ حنين وكان يقدمه ويعظمه ويفضل نقله وكان يترجم من اليونانية والسريانية للعربية) كما نقل إلى اللغة العربية سبعة وخمسين كتابا اشترك في نقلها تسعة مترجمين يذكر أسماءهم ابن النديم [6] ، إضافة إلى تصحيح سبعين كتابا ترجمها تلاميذه إلى العربية.
- ونلاحظ أن حركة الترجمة التي دامت قرنين من الزمن ابتدأها الحكام لكنها تنامت وأصبحت حركة شعبية عامة دخلت في صميم حياة وتبناها وغذاها مئات منهم جلهم من الميسورين والأطباء والتجار والوراقين. ويقول جرجي زيدان في هذا الصدد: واقتدى بالمأمون كثيرون من أهل دولته وجماعة من أهل الوجاهة والثروة في بغداد فتقاطر إليها المترجمون من أنحاء الجزيرة والعراق والشام وفارس وفيهم النساطرة واليعاقبة والصابئة والمجوس والروم والبراهمة يترجمون من اليونانية والفارسية والسريانية والسنسكريتية والنبطية واللاتينية وغيرها. وكثر في بغداد الوراقون وباعة الكتب وتعددت مجالس الأدب والمناظرة وأصبح هم الناس البحث والمطالعة وظلت تلك النهضة مستمرة بعد المأمون [7] .
- وفي عصر المأمون وعندما انتصر المأمون على تيوفيلوس ملك الروم سنة (215هـ/ 831م) علم بأن اليونان كانوا قد جمعوا كتب الفلسفة من المكتبات، وألقوا بها في السراديب عندما انتشرت النصرانية في بلادهم، فطلب المأمون من تيوفيل أن يعطيه هذه الكتب مكان الغرامة التي كان قد فرضها عليه؛ فقبل تيوفيل بذلك وعدَّه كسبًا كبيرًا له لنجاة أمته من أدران الفلسفة اليونانية العقيمة الفاسدة. أمّا المأمون فعدَّ ذلك نعمة عظيمة عليه، بينما كانت – في الواقع – نقمة كبيرةً على المسلمين؛ إذ تسببت تلك الكتب في إشغال المسلمين بالجدل فيما لا طائل وراءه، بل أدخلت في الإسلام عقائد وثنية مما كان يؤمن به فلاسفة الملل الأخرى كعقيدة الحلول والاتحاد، ووحدة الوجود، والعقول العشرة، ورأسهم المعتزلة، إذ اتصلت بالكتب الجديدة وتعرفت على أرسطو وتأثرت أبحاثهم بالمنطق [8] .
- وبدا هذا التأثير جليا في جميع الكتب التي ظهرت في ذلك العهد والمثل على ذلك كتاب سيبويه الذي كان ترتيبه وتبويبه منطقيا. وفي عيون الأنباء في طبقات الأطباء مسرد لأسماء النقلة يتضمن خمسين منهم إضافة إلى من نقلت له كتب وترجمت باسمه من أكابر الأطباء كيوحنا بن ماسويه وجبرائيل بن بختيشوع بن جبرائيل وداوود بن سيرابيون [9].
- ولم يكتف علماء المسلمين بترجمة كتب علماء العصور السابقة بل تعدوا ذلك إلى تصنيف المؤلفات، حتى أنه صار لهم في كل مجالات الحياة مؤلفات وإنجازات صارت فيما بعد مراجع للحضارة الأوربية المعاصرة.
- واخذوا يطبقون العلم على العمل فصنعوا الات الرصد وانشأوا المراصد في كثير من البلدان اقدمهما المرصدان اللذان امر المأمون بأنشائهما كان أحدهما في الشماسية ببغداد والثاني بسفح جبل قاسيون بدمشق، وجهز المرصدان بألات دقيقة صنعها الفلكيون ورصدوا الكواكب ودونوا ملاحظاتهم ومشاهداتهم فكانت دقيقة إلى حد ما، ومهر عدة علماء بصناعة الاسطرلاب وصنفوا الكتب التي تبحث عن كيفية استعمالها، ومنهم ابو حامد الاسطرلابي المتوفي سنة (ت 379هـ / 989م) وكان يحكم صناعة الاسطرلاب غاية الاحكام.
- وقام العرب بعدة تجارب في المساحة التطبيقية، وقاسوا دائرة نصف النهار بأمر من الخليفة المأمون وحققوا بواستطها محيط الكرة الارضية وقطرها وكانوا موفقين في عملهم، وقام الجغرافيين بعمل صور جغرافية كانت غاية في الدقة والاتقان ومن ذلك نقلا عن المسعودي أن لاحمد النهاوندي كتابا صور فيه الدنيا كلها للرشيد ببحورها وجبالها واوديتها وأقاليمها وبلدانها وسائر أماكنها
- أما عن الحركة العلمية في الحضارة الاسلامية فيمكن القول أن الحياة العلمية والفكرية في دار الاسلام قد ازدهرت أيما ازدهار بحيث صارت اللغة العربية لغة عالمية للعلم والمعرفة في العصور الوسطي وبدايات العصر الحديث.
2-4 الترجمة فى عصر ما بعد المأمون:
الخليفة المتوكل علي الله [10] من أهم الخلفاء بعد المأمون وكان له دور بارز في رعاية حركة الترجمة واعاد للترجمة بعض ما كانت علية في عصر المأمون، وخلال هذه الفترة انبثقت حركة واسعة من التدوين والتاليف على حساب حركة الترجمة وكنتيجة مباشرة لها، كما ان القرن 4هـ / 10م كان هو العصر الذهبي للمترجمين العرب الذين اثبتت ترجماتهم ما كانوا يتمتعون بة من مقدرة وكفاءة في هذا المجال فنافسوا اقرانهم التراجمة من غير العرب ومن اشهر هؤلاء: سنان ابن ثابت ابن قرة وعيسى ابن اسحق، وحنين بن إسحاق الذي ترجم كتبا عديدة في المنطق والفلسفة والطبيعة، لكن أغلب ما نقله كان في الطب وقد ترجم من اليونانية إلى السريانية والعربية فترجم لجالينوس 95 كتابا إلى السريانية نقل منهم إلى العربية 39 كتابا فقط.
في المقال القادم بإذن الله سنناقش دور بيت الحكمة في حركة الترجمة، فتابعونا.
المراجع:
[1] مدرسة جنديسابور: (أسسها كسرى الأول أنو شروان (531-567). وكانت في أوج مجدها حين فتح العرب بلاد فارس سنة (19هـ-642م) في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وقد التقت فيها حضارة اليونان بحضارات الشرق بفضل العلماء السريان، كانت لغة العلم في جنديسابور اليونانية مع اللغات الفارسية والسريانية. وكان لمدرسة جنديسابور مستشفى يعد من أكبر المشافي في العهد السابق للإسلام بثلاثة قرون. كان للسريان إسهام كبير في جنديسابور وشهرة واسعة، لذلك فقد اعتمد الخلفاء المسلمون عليهم في العلاج والترجمة.) [2] الزندقة: حركة ظهرت على يد مجموعة من اليهود والمجوس وغيرهم، فقد غاظهم ما رأوة من إنتشار دين الإسلام، فعملوا على تدبير المؤمرات والفتن للكيد له من داخله، فأظهر كثير منهم الدخول في الإسلام والتستر به بقصد إفساد عقائد المسلمين، وقد شوه هؤلاء الزنادقة الدين والإسلام، ووضع الزنادقة أحاديث مكذوبة على رسول الله ما يقارب اثنى عشر الف حديث باطلة بهدف إيقاع الشك في نفوس الجهلة من المسلمين.) [3] (كتاب بيت الحكمة لسعيد الديورجي ص 36) [4] (ضحي الإسلام أحمد أمين ج1 ص299.) [5] (مانفرد أولمان (Manfred Ullmann) من كتاب ضحي الإسلام أحمد أمين ج1 ص300). [6] (ابن النديم- الفهرست: ص579 وما بعدها) [7] (جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي ج3 ص142 مطبعة الهلال بالفجالة مصر 1904.) [8] (أحمد أمين: ضحى الإسلام الجزء الأول ص277 مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر- القاهرة 1952) [9] (موفق الدين أبي العباس أحمد بن قاسم بن خليفة بن يونس السعدي الخزرجي المعروف بابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، شرح وتحقيق الدكتور نزار حنا ص276-284 منشورات دار مكتبة الحياة- بيروت 1965.) [10] المتوكل على الله: بن المعتصم بن هارون الرشيد حكم في الفترة من 232– 247 هـ / 846 – 861م كان متمذهباً بمذهب الشافعي وهو أول من تمذهب له من الخلفاء. يعتبره عدد من العلماء محيي السنة ومميت البدعة أمثال الذهبي وخليفة بن خياط لإنهائه فتنة خلق القرآن.