دور بيت الحكمة في حركة الترجمة: تحدثنا في المقال السابق عن: العوامل التي أسهمت في الوصول للعصر الذهبي للحضارة الإسلامية، لما ترجم العرب كتب ومعارف الامم السابقة واجتمع عندهم عدد كبير منها، رأى الخلفاء ومحبو العلم أن يجمعوا هذه الكتب في أماكن خاصة سميت بيت الحكمة أو دار الحكمة أو خزانة الحكمة، كلها بمعنى واحد يراد به المكان الذي توضع به كتب الحكمة، واكثر كتبها في الفلسفة والمنطق والطب والرياضيات والفلك وغيرها من الكتب المختلفة، فعل هذا الخلفاء حباً في نشر العلوم والمعرف بين مختلف طبقات المجتمع غنيها وفقيرها، ليتيسر لكل فرد أن ينال قسطه من الثقافة، وفتحوا ابوابها لكل قاصد علم، ويسروا للناس أمر الترجمة والدرس والاستنساخ والمطالعة والبحث والنقد والتعليق عليها. ونشأت عدة بيوت للحكمة في مختلف العواصم الاسلامية، نستعرضها فيما يلي:
أولا: بيت الحكمة في بغداد:
- كان الخليفة أبو جعفر المنصور (135 هـ / 752م – 158 هـ / 774م)مهتماً بعلوم الحكمة، فترجمت له كتب في الطب والنجوم والهندسة والآداب، وخصص خزانات للكتب في قصره لحفظها حتى ضاق قصره بها (أول بيت حكمة في العالم الإسلامي).
- وعندما تولى هارون الرشيد الحكم (170 هـ / 786م – 193 هـ / 808م) أمر بإخراج الكتب والمخطوطات التي كانت تحفظ في جدران قصر الخلافة، لتكون مكتبة عامة مفتوحة أمام الدارسين والعلماء وطلاب العلم وسماها “بيت الحكمة”، وأضاف إليها ما اجتمع عنده من الكتب المترجمة والمؤلفة.
- نشأ بيت الحكمة أولاً كمكتبة ثم أصبح مركزاً للترجمة، ثم مركزاً للبحث العلمي والتأليف، ثم أصبح داراً للعلم تقام فيه الدروس وتمنح فيه الإجازات العلمية، ثم ألحق به بعد ذلك مرصداً فلكياً هو مرصد الشماسية.
- قسم المأمون بيت الحكمة إلى قسمين: قسم المكتبة العامة، وقسم الترجمة، ضم الاول خزائن الكتب، وقاعات القراءة، وضم الثانى أماكن خاصة للتراجمة تحتوي على أدواتهم المستعملة أثناء العمل.
كان بيت الحكمة اكاديمية علمية بالمعني الصحيح ولم تكن حركة النسخ داخل بيت الحكمة بأقل اهمية من حركة الترجمة ذاتها بل هما عمليتان متلازمتان تكمل احداهما الاخرى فبعد ترجمة الكتاب يقوم النساخ بنسخ أكثر من نسخة تبقى الاصلية داخل بيت الحكمة وتوزع النسخ الاخري على المشاهير من الوزراء والعلماء، وبعد عملية النسخ تأتي المرحلة الثالثة من مراحل انجاز
- الكتاب وهي التجليد للمحافظة على الكتاب واعطائة منظراً جميلا، أما المرحلة الرابعة والاخيرة فهي مرحلة التوزيع.
- كان عهد المأمون هو ازهي عصور بيت الحكمة فكان أول مكتبة عامة ذات شأن في العالم الاسلامي، فوسع من نشاطها وضاعف العطاء للمترجمين وقام بإرسال البعوث إلى القسطنطينية لاستحضار ما يمكن الحصول عليه من مؤلفات يونانية في شتى ألوان المعرفة.
- عمل المأمون على زيادة عدد التراجمة فى بيت الحكمة لترجمة الكم الكبير من الكتب التى جلبت إلى بيت الحكمة من أمثال: الحجاج بن مطر، وابن البطريق ويوحنا ابن ماسويه، وحنين ابن اسحاق، واسحاق ابن حنين، وحبيش ابن الاعسم وغيرهما من التراجمة الذين قاموا تحت رعاية الخليفة المأمون بمهمة تاريخية عظيمة.
- أثر بيت الحكمة فى بغداد في إيجاد نماذج مشابهة فى الاقطار الاسلامية التى اتخذت من بيت الحكمة نموذجا يحتذى به مثل مكتبة قرطبة، وبيت الحكمة في مدينة القيراوان، وبيت الحكمة في مدينة القاهرة، ومكتبة الحكمة في طرابلس، دار الحكمة في مراغة، ودار العلم فى الموصل، وكان لكل ذلك اثرة الفعال فى نشاط الحركة العلمية فى العالم الاسلامى.
ثانياً: بيت الحكمة في قرطبة:
كانت قرطبةُ مركزَ الدولة الأموية في الاندلس، وبمجيء عام ٣٣٠ هـ أصبحَتْ مكتبة قرطبة واحدةٌ من أكبر مكتبات العالَم القديم، وضَمَّت مائتَيْ ألف مجلد، وقيل أربعمائة ألف، وكانت فهارسها تستغرق أربعًا وأرْبَعِين كراسة، كل منها خمسون ورقة، ليس فيها إلا عناوين الكتب، بينما كانت أكبر مكتبة في أوروبا آنذاك وهي مكتبة كنيسة كنتربري لا تضم أكثر من خمسة آلاف كتاب، واكتسبت شُهْرة عالمية، وأصبحت من أهم مراكز الدرس في عصرها، واقترن اسمها بالعلم والعلماء، حتى قيل فيها:
- بأربع فاقت الامصار قرطبة منهن قنطرة الوادي وجامعها
- هاتان ثنتان والزهراء ثالثة والعلم أعظم شئ هو رابعـــها
- بينما خبا وَهَجُ الحضارة وجذوةُ الإبداع في الشرق، ظلت مكتبات قرطبة وطليطلة تتربع على عرش العلم في المغرب الإسلامي، وانفردت الأندلس بالميدان في الرياضيات والمنطق والفلسفة والعلوم والطب، إبان القرن الثاني عشر، حتى قيل « إن القرن الثاني عشر من نصيب الأندلس الإسلامية» لقد انتقلت راية بغداد الى الأندلس، وكان المسلمون قد أخذوا معهم إلى الأندلس الفنون الهندسية الزراعية، وقاموا ببناء مشروعات الري، فعلَّموا الأوروبيين أصول الهيدروليكا، وجعلوا مِنْ قرطبة أَهَمَّ مركز ثقافي متطور في أوروبا حينذاك، وعن طريق قرطبة وجنوب إسبانيا، أَخَذَ المجتمع الإقطاعي الناشئ في أوروبا يَنْهَل من ينابيع العلم الإغريقي والعربي، وكما يؤكد مؤرخ العلم الثقة ج. كروثر، كان ما أَخَذَتْه أوروبا من هذا المنفذ يفوق بما لا يضاهى كُلَّ ما أخذوه عن طريق الحروب الصليبية، فقد استمر هذا المنفذ بقرطبة وجنوب الأندلس في عطائه حاملًا خلاصة المد العقلي العربي، حتى بعد أن خَبَت الحضارة في المشرق. واستمر هذا حتى عام (٤٤٢ هـ/ ١٠٣١ م) وهو عام سقوط قرطبة وانفراط سلك الخلافة الأموية، وقيام الدويلات والممالك التي كانت بداية النهاية للحضارة الأندلسية.
ثالثا: بيت الحكمة في مدينة القيراوان:
قامت دولة الاغالبة في تونس [1]، واتخذت مدينة القيراوان عاصمة لها، وامتاز امراؤها بحبهم للعلم والادب وكان منهم شيخ الفتيا وقاضيهم “أسد بن الفرات” فاتح صقلية وصاحب كتاب الاسدية في الفقة المالكي، وامتاز عصر الاغالبة بانتشار علوم الفلسفة والطب والحكمة، وأول من أهتم بنشرها بين السكان هو الطبيب اسحق بن عمران، وسعى الاغالبة بجلب الكتب العلمية المختلفة من اليونانية واللاتينية، فترجموا لهم عده كتب في الفلسفة والطب والنبات والتاريخ، وأنشأ الاغالبة بيت الحكمة بمدينة القيراوان قريبا من الجامع الكبير، وفيه مكتبة ودار ترجمة وتأليف، ومعهد لتدريس علوم الطب والصيدلة والرياضيات والفلك وغيرها، ومحل لاقامة العلماء ومن يرتاد هذا البيت فيجدون فيه السكن واسباب العيش ولوازم الكتابة، كما نجد فيه النساخون والتراجمة والوراقين، وانتشرت بواستطة الارقام الهندية التي اخذها العرب وهذبوها وادخلها للاندلس دوناس بن فرش القيراواني، وبعد سقوط دولة الاغالبة على ايدي الفاطميين، تنقطع عنا اخبار بيت الحكمة، فأخذ ينزح منه العلماء للاندلس فرحب بهم عبد الرحمن الناصر وابنه الحكم من بعده.
رابعاً: دار الحكمة في مدينة القاهرة:
كانت المنافسة بين الفاطميون [2] والعباسيين في السياسة والعلم والادب، فأسس الفاطميون دار حكمة في القاهرة سنة (395هـ/ 1004م) على نحو ما كان عليه بيت الحكمة ببغداد، وجعلوا فيها مكتبة كبيرة، وضعوا فيها الاف الكتب المنوعة والنادرة والتي تمتاز بجودة الخط وجمال التجليد ودقة الزخارف، تجد فيها كتب الفقه وواللغة والروحانيات و والكيمياء والفلسفة والطب، من كل كتاب عدة نسخ وبلغ عدد الكتب مليون وستمائة الف مجلد ووصف المقريزي دار الحكمة بالقاهرة فقال: حملت الكتب إليها من القصور المعمورة، وجلس فيها القراء والمنجمون واصحاب اللغة والاطباء بعد أن فرشت الدار وزخرفت، وحمل لهذه الدار من خزائن امير المؤمنين الحاكم بأمر الله من الكتب في سائر العلوم والاداب، وحضرها الناس على طبقاتهم: فمنهم من يحضر قراءة الكتي، ومنهم من يحضر للنسخ، ومنهم من يحضر للتعلم” وكان الحاكم يشرف بنفسه على الحركة العلمية في بيت الحكمة، وتجري بحضرته المناظرات والمجالس العلمية والدينية، واوقف الحاكم للدار ما يكفي لادامة عمارتها، ولمرتبات من يشتغل فيها من العلماء والفقهاء والخدم، وما يلزمها من المصروفات المختلفة، وصار الخلفاء الفاطميون على على طريقته فضاعفوا اوقافها وصرفوا عليها بسخاء.
خامساً: تأثير صناعة الورق في الحضارة الإسلامية:
- عرف العرب أسرار صناعة الورق الصيني من خلال سمرقند التي فتحوها في عام (93هـ / 712م).
في عام (178هـ/ 794م) أسس الفضل بن يحيى في عصر هارون الرشيد أول مصنع للورق في بغداد؛ ومن ثَمَّ انتشرت صناعة الورق بسرعة فائقة في سائر أنحاء العالم الإسلامي، فدخلت سوريا ومصر
- وشمال إفريقيا وإسبانيا، وكان الناس حتى ذلك الوقت يكتبون على الرق والعسب واللخاف، ثم أمر هارون الرشيد بعد أن كثر الورق ألا يكتب الناس إلا في الكاغد (الورق) [3]
- وترتب على تطور صناعة الورق انتشار الكتب في كل مكان؛ ولا سيما في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية؛ حيث كان يوجد مكتبة بكل مسجد، وكان الحكام والأغنياء يتباهون ويفاخرون بجمع الكتب واقتنائها، وكان بعضهم يجري الأرزاق على العلماء وطلاب العلم في هذه المكتبات، وكانت بغداد تضم ستة وثلاثين مكتبة قبل أن يدمرها المغول.
- كان لاكتشاف صناعة الورق وانتشار حرفة الوراقة فى العالم الاسلامى فضل فى انتشار تاليف المخطوطات، وقد تنوعت المخطوطات العربية بين متَرجم ومؤلَف …اما عن المتَرجم فكان منها الهندى والفارسى والاغريقى والمصرى (من مكتبات الاسكندرية) ولم تكن المكتبات الاسلامية كما هى فى عصرنا مجرد اماكن لحفظ الكتب بل كان فى المكتبة الرئيسية جهاز خاص بالترجمة واخر خاص بالنسخ والنقل وجهاز بالحفظ والتوزيع …. وكان المترجمون من جميع الاجناس الذين يعرفون العربية يترجمون على لغة بلادهم ثم يراجع عليهم علماء العرب لاصلاح الاخطاء اللغوية.
- اما النَقلة والنساخون فكانت مهمتهم اصدار نسخ جديدة من كل كتاب علمى عربى حديث او قديم وكانت أضخم المكتبات هى الملحقة بالجامعات ففى بيت الحكمة فى بغداد وفى دار الحكمة فى القاهرة وفى جامعة القيروان وقرطبة كانت أضخم المكتبات وكانت المخطوطات فى كل منها بالالوف فى كل علم وفرع من فروع العلم.
- وخلال عشرة قرون متتالية، وحتى تاريخ اختراع أول ماكينة ورق في القرن الثامن عشر الميلادي لم تتغير العمليات الأساسية المستخدمة في صناعة الورق.
وبذلك نكون قد تحثنا عن موضوع اليوم والذي كان بعنوان: دور بيت الحكمة في حركة الترجمة، وفي المقال القادم بإذن الله نتحدث عن: نشأة الجامعات فى العالم الاسلامى. فتابعونا.
المراجع:
[1] قامت دولة الاغالبة في تونس على يد مؤسسها ابراهيم بن الاغلب (184 – 296 هـ/ 800 – 908م) [2] (395-576 هـ/ 1003-1171م) [3] (تاريخ العلوم والتكنولوجيا: ص 505.)