العمران في عصر النبوة

العمران في عصر النبوة:  كانت العمارة عند العرب قبل الإسلام تتسم بالطابع الشخصي أكثر بكثير من الطابع المركزي، وبنيت معظم المساكن والمنشآت باللبن فوق أسس من الحجر، وعندما أشرق نور الاسلام، أثرت العقيدة الإسلامية التي تغلغلت في نفوس معتنقيها من الصحابة والتابعين ثم الاجيال التي تتابعت بعدهم، لسماحتها ولملاءمتها لطبيعة النفس البشرية، ولذلك ارتبط العمران ارتباطاً وثيقاً بعمارة المساجد التي يعمرها من آمن بالله واليوم الآخر.

فكان المسجد مركز التلاقى ونقطة الانطلاق بالنسبة الى الاسلام والى المسلمين الذين حرصوا على بنائه طلباً للأجر وطمعاً بالمثوبة من الله، ولقد وجد اصحاب الكفاءات الهندسية فى عمارة المساجد المناخ الذى يظهر طموحاتهم الابداعية فلم يدخروا جهداً فى أن يأتى المسجد بين ايديهم ايه للناظرين من حيث روعة التصميم وجمال الزخرفة، والمساجد التى بنيت فى اقطار العالم حفظت لنا التطور الذى عاشته العمارة الدينية فى الاسلام، وسجلت لنا تاريخ الدول المتعاقبة وأعطتنا صورة صادقة عن منشئها.

كما أعطتنا فكرة عن المدارس الهندسية التى تجسدها هذه العمارة، ولا تزال إلى الآن شاهدة على عظمة هذه الحضارة وإنسانيتها، ولم تقتصر تلك العمارة على المساجد والمنازل فقط، بل إمتدت لتشمل المدارس والأسبلة وحتى القلاع والحصون ما يدل على اهتمام الحضارة الإسلامية بكافة مناحي النشاط الاقتصادي والاجتماعي وأيضا الحربي، وجمعت العمارة الإسلامية بين مختلف أشكال الفنون الأخرى.

الجانب المعماري في عصر النبوة

نقطة البداية في تاريخ العمارة الاسلامية: تتمثل في مسجد الرسول ﷺ الذي كان أول شئ فعله رسول الله ﷺ في المدينة المنورة عندما هاجر إليها، فكان مكاناً للعبادة وتبليغ الوحي، وإدارة الدولة الإسلامية وفيه ربى رسول الله ﷺ أصحابه وعلمهم شرائع الإسلام وفنون القيادة في ميادين الحرب والسياسة والإدارة، وأثر بناء المسجد في التركيب الداخلي لعمران المدينة المنورة، ومنذ ذلك التاريخ بدأ يتبلور فقه البنيان في الحضارة الاسلامية.

المسجد: بعد أن بركت الناقة في مربد لسهل وسهيل وكانا غلاميين يتيمين من الانصار في حجر أسعد بن زرارة، فساوم رسول الله الغلامين بالمربد ليتخذه مسجداً، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله، فابتاعه منهما بعشرة دنانير، ونستطيع أن نرى في بناء المسجد بعض الدروس المعمارية مستوحاة من هدي النبي وصحابته الكرام:

  1. احترام الملكية الخاصة للناس: فعند إختيار الارض التي بني عليها المسجد، أخذ موافقة أصحابها، وتم تقدير ثمن الارض وتعويضهم، فالله طيب لا يقبل إلا طيباً.
  2. وضع البرامج الزمنية لتنفيذ أي مشروع: بدأ رسول الله بتجهيز الموقع وإعداد مواد البناء، فلقد كان بالارض عند شرائها شجر غرقد وخرب ونخل وقبور، فأمر رسول الله بالقبور أن تنقل، وبالخرب فسويت، وبالنخل والشجر فقطعت وصفت في قبلة المسجد، وأن يغيبوا الطوب الذي سوف يستخدم في بناء حوائط المسجد، وبذلك نجده قد أمر بتجهيز اللبن الذي يحتاج لبعض الوقت حتى يجف ويصبح صالحاً للبناء… كل ذلك من أجل كسب الوقت، وهذا شبيه بالاسلوب المتبع في عصرنا الحديث لتنفيذ المشاريع حيث يمكن عمل مرحلتين أو أكثر في وقت واحد إن أمكن ذلك، مما يوفر في المدة الاجمالية لتنفيذ المشروع.
  3. استخدام المواد المتوفرة في البيئة وتحقيق المشاركات الشعبية في بناء المشروعات العامة: استخدم رسول الله وصحابته الكرام المواد المتوفرة في بيئة المدينة المنورة وهي اللبن للحوائط، وجذوع النخيل للاعمدة، وجريد النخل لسقف المسجد، كما كان رسول الله يبني معهم وينقل اللبن والحجارة بنفسه ويقول: اللهم لا عيش إلا عيش الاخرة فاغفر للانصار والمهاجرة، وجعل الصحابة يرتجزون وهم ينقلون اللبن: لئن قعدنا والرسول يعمل لذك منا العمل المضلل.
  4. تشجيع العناصر المعمارية الجديدة التي تسهل من أداء وظيفة المسجد: حينما أقر رسول الله فعل تميم الداري [1] حينما أسرج المسجد النبوي بالقناديل، وبذلك اسس رسول الله عند عمارته للمسجد حرية الابتكار والابداع للمسلمين، حسب الزمان والمكان، ولكن في حدود الضوابط الشرعية.

تخطيط المسجد النبوي:

جعل رسول الله قبلة المسجد إلى بيت المقدس، و طول المسجد مما يلي القبلة إلى مؤخرته مائة ذراع، وفي الجانبين مثل ذلك أو دونه، وجعل أساسة قريباً من ثلاثة أذرع، وله ثلاثة أبواب، باب في مؤخرته، وباب يقال له باب الرحمة، والباب الذي يدخل منه رسول الله، وكانت أرض المسجد من التراب، وعمده من جذوع النخل، وسقفه بالجريد، وإرتفاعه يمكن للمصلي أن يلمسه إذا مد يده، وبنى إلى جنبه بيوت أزواجه باللبن وسقفها بالجريد أيضاً، وجعل في الركن الشمالي الغربي من الفناء ظلة صغيرة أو صفة، يسكن فيه أصحاب الصفة من فقراء المسلمين ومن لا مأوى لهم. وأضاف الرسول الكريم ظلة أخرى أكبر بطول الجدار الجنوبي كله للفناء، وذلك عندما نزل الامر بالاتجاه إلى الكعبة عند الصلاة، وبذلك تحول فناء الدار إلى صحن لاول مسجد شيد في العصر الاسلامي. 

سكن النبي وبيوت أمهات المؤمنين: ومن الجدير بالذكر أن دار رسول ﷺ قد خططت في أولى مراحلها في بساطه شديدة، تتفق مع الظروف التي كانت محيطه أنذاك بالمسلمين، وكان تخطيطها على أيدي رسول الله والمهاجرين والانصار، بدأت الدار بحجرتين من جدران من اللبن والطين وأمامهما فناء يحيط به أسوار شيدت باللبن، وترتفع إلى أكثر قليلاً من قامة الرجل، وسقفها بجذوع النخل والجريد.

وجعل لها أبواب ونوافذ متقنة للتهوية، لتسهيل الدخول والخروج وخفة الحركة، ثم زاد عدد الحجرات إلى أربع ثم إلى تسع حجرات. وقد إستغرق عمران المسجد وحجرات الرسول سبعة أشهر [2].  وكان رسول الله ﷺ يسكن دار أبي أيوب الانصاري تلك الفترة، ونلاحظ مما سبق توفر البساطة، والخصوصية، والتوافق مع البيئة في المنزل الاسلامي، وهي شروط إنعكست كثيراً على عمارة المنازل عبر العصور الاسلامية.

إهتمام رسول الله بمعاني التعمير والانشاء القائمة على التخطيط [3]: كان رسول الله يريد أن ينقل الناس من حياة الظعن والتنقل البدائية إلى الاستقرار، أي الانتقال من البداوة إلى الحضارة، وكان ينهى من يستقرون أن يعودوا إلى البداوة، لانه كان يعرف أن الحضارة مرتبطة دائما بالاستقرار، ونحاول أن نبين فيما يلي بعد نظر رسول الله وصدق تصورة لمعاني التعمير والانشاء القائمة على التخطيط:

  1. توفير السكن وتهيئة الطرق بالمدينة: قدم رسول الله المدينة، وسكانها موزعون عشائرياً في قرى صغيرة أو حصون وأطام، فكان الحصن الواحد للعشيرة تحيط به حيطانها يعملون فيها بالزراعة والصناعة ثم إذا جاء المساء دخلوا حصونهم وأقفلوا أبوابهم، وبلغ عدد حصونهم 59 أطما وحصناً موزعة على قبائلهم وعشائرهم [4] وبقدوم المهاجرين إلى المدينة كان أمام النبي مهمة توفير السكن والمعاش لهم، وكان للانصار مساهمات عظيمة، فقد منح الانصار الاراضي لرسول الله يفعل فيها ما يشاء، وكانت مسئولية توزيع الاراضي (الخطط) في يد رسول الله بأعتباره الحاكم، فبدأ رسول الله ﷺ ببناءالمسجد وسط منازل بني عدي بن النجار.
  2. قسم رسول الله الارض دوراً، أي قطعاً كبيرة، وأقطع كل قبيلة في خطة خاصة بها، مع ترك حرية تقسيم الخطط للقبيلة، وفقاً لظروفها وإمكاناتها في الانشاء والتعمير، ومدى الحاجة إلى ذلك، فكأنما روعيت النظرة المستقبلية لامتداد العمران، وأخذ الناس يبنون على جانبي الشارعين الرئيسيين، وقسم لكل من إحتاج من المهاجرين من الصحابة داراً، فكانت هناك دار طلحة ودار الزبير ودار عبد الله بن الحارث مثلاً، ومن لم يجدوا داراً يسكنوا فيها أنزلهم النبي مؤخرة المسجد (الصفة) فسموا أهل الصفة، وكانوا يكثرون ويقلون بحسب من يتزوج منهم أو يسافر، وكانوا ما يقارب المائة، وأقبل الناس يبنون ويزرعون، واتصلت الواحات بعضها ببعض فتحول السهل إلى مدينة رسول الله.
  3. تمهيد الطرق: مهد رسول الله طريقاً يصل إلى قباء جنوباً وإلى واحة السنح شمالاً، كما أمر رسول الله بأن يعد طريق مبلط من المسجد الجامع غرباً حتى يصل إلى جبل سلع.
  4. إعتني رسول الله بأعمال العمران وكان يحب البناء المحكم، ولا يميل إلى التأنق في المسكن، ولكنه كان يحب البناء الحسن، بنى واحداً من أصحابه بيتاً حسناً وكانت في رحبة الدار بئر، فلما زاره الرسول فيها طلب إليه أن يبني البئر بالاجر ويجعل لها وزرة “حافة” من حجر وأن يجعل إلى جانبها حوضا من حجر أيضاً، وأن يملاء الحوض كل يوم ويغطي البئر والحوض حتى لا تقع فيهما البهائم والهوام.

مواصفات الخندق: طولة 3000 متر تقريباً، وعرضة من 7-10 متر، وعمقة من 3-5 متر.

عدد العاملين: 1500 رجل بمعدل 2.5 متر لكل شخص

وتمّ تقسيم المسؤولية بين الصحابة بحيث تولّى كل عشرةٍ منهم حفر أربعين ذراعاً، ثم بدأ العمل بهمّة وعزيمة على الرغم من برودة الجوّ وقلة الطعام، وزاد من حماسهم مشاركة الرسول ﷺ في الحفر ونقل التراب.ثم جعل الرسول الرمال والصخور الناتجة من الحفر ناحية المدينة ليحتمي بها المسلمون، ويحول بين العدو والعمل على ردم الخندق إذا كانت الرمال من جانبه.

وبكدة نكون وصلنا لنهاية حلقتنا النهاردة
في الحلقة القادمة والي هنتحدث فيها عن: العمارة الإسلامية نشأتها وتطورها نحاول دراسة العمارة الإسلامية في الأقاليم المختلفة، أنماط المباني في العمارة الإسلامية وفي مدينة القاهرة القديمة – تطور العمارة الإسلامية (من خلال دراسة المباني الدينية والعامة والسكنية)


المراجع:

[1] كتاب نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الادارية والولايات الدينية – عبد الحي الكتاني – نشر دار الكتاب العربي – بيروت (ص 86) [2] الوفا بأحوال المصطفى ج1 – ص 251).

[3] إحتوى كتاب وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى للسمهودي المتوفى سنة 911هـ وكتاب نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الادارية لعبد الحي الكتاني- المتوفي 1962م على معلومات تدعو للعجب عن بعد نظر رسول الله وصدق تصورة لمعاني التعمير والانشاء القائمة على التخطيط. [4] المدينة الاسلامية، د. عبد الستار عثمان ص:52) [5]ترجمة ابن سعد في الطبقات لقيس بن طلق الحنفي – كتاب نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الادارية لعبد الحي الكتاني ، ج2 /57). [6]روى ابن ماجه نحوه في كتاب التجارات، باب (40) الاسواق ودخولها، بسند فيه ضعف). [7] د. محمد عبد الستار عثمان، المدن الاسلامية، ص 56 – سلسلة عالم المعرفة – الكويت 1988). [8] عيون الاثر في فنون المغازي والسير، ابن سيد الناس، ج2، ص 328، تحقيق لجنة حفظ التراث، بيروت، 1980). [9] رواه مسلم. [10] رواه البخاري عن عائشة رضى الله عنها، في فضائل أبواب المدينة حديث رقم: 1889، ورواه الامام أحمد برقم 6/65.). [11] رواه البخاري عن عائشة، في فضائل أبواب المدينة حديث رقم: 1889، وأجنا: الماء الاجن: المتغير لونه وطعمه وبطحان وادي في المدينة.). [12] رواه البخاري في التاريخ الكبير ، ج2 /51). [13]رواه البخاري في التاريخ الكبير ، ج2 /51).

Exit mobile version