العمارة الإنسانية والاجتماعية: فلسفة التصميم لخدمة الإنسان والمجتمع
المقدمة
في عالم يواجه تحديات متسارعة—كالحروب، الكوارث الطبيعية، الفقر، وانهيار البنى الاجتماعية، برزت مدارس معمارية تهدف إلى إعادة تعريف دور العمارة، ليس فقط كفن جمالي أو أداة اقتصادية، بل كوسيلة لتحسين حياة الإنسان وتعزيز العدالة الاجتماعية. وأداة لإنقاذ الأرواح، وإعادة بناء المجتمعات، وتمكين الفئات الأكثر ضعفاً. من هنا ظهرت العمارة الإنسانية والعمارة الاجتماعية، وهما مدرستان تتقاطعان في فلسفة واحدة هي: “من لا يملك صوتاً… تمنحه العمارة صوتاً.” ومن لا يملك مسكناً… تصبح العمارة وسيلته للحياة الكريمة.
أولاً: ما هي العمارة الإنسانية؟
مدرسة العمارة الإنسانية (Humanitarian Architecture أو Architecture for Humanity) مصطلح يشير إلى اتجاه معماري يركز على الإنسان كعنصر أساسي في التصميم، بحيث تكون المباني والفراغات مهيأة لتلبية احتياجاته النفسية والجسدية والاجتماعية، مع احترام البيئة والثقافة المحلية. هذا النهج لا يقتصر على الشكل الجمالي، بل يسعى لتحقيق التوازن بين الوظيفة، الراحة، والاستدامة، ومن أهم مبادئها:
العمارة الإنسانية تضع الإنسان والمجتمع في قلب العملية التصميمية، مع التركيز على الاستدامة والاندماج الثقافي. ومن أبرز روّاد هذه المدرسة الذين استطاعوا ترجمتها إلى مشاريع واقعية هم:
- تحقيق الراحة الحرارية والضوء الطبيعي.
- احترام الهوية الثقافية والبيئة المحلية.
- تعزيز التفاعل الاجتماعي من خلال تصميم الفراغات.
- استخدام مواد طبيعية ومستدامة.
- إشراك المجتمع في عملية التصميم.
أهم مبادئ مدرسة العمارة الإنسانية:
1. الإنسان أولاً – الإنسان محور التصميم:
كل قرار معماري ينطلق من راحة المستخدم وتجربته داخل الفضاء. لا يهتم المعماري هنا بالشكل قبل الوظيفة، بل يبدأ بسؤال: “ما الذي يحتاجه الناس فعلاً؟”
2. المشاركة المجتمعية
المشروع يُصمَّم مع الناس وليس لهم، بحيث يعكس هوية المجتمع ويعزز الترابط بين الأفراد من خلال:
- ورش عمل
- بناء جماعي
- تدريب السكان على تنفيذ أعمال الصيانة
3. الاستدامة والانسجام مع الطبيعة:
استخدام مواد محلية طبيعية، وتقنيات تقلل الأثر البيئي، مع احترام السياق المحلي، وحلول منخفضة الطاقة، وابتكارات يمكن للجميع تطبيقها.
4. العمارة كأداة للتنمية
كل مبنى يجب أن يترك أثراً اجتماعياً:
- تمكين اقتصادي
- إعادة إعمار نفسي
- خلق فرص عمل
- بناء الشعور بالانتماء
ثانياً: ما هي العمارة الاجتماعية؟
العمارة الاجتماعية: هي تيار معماري عالمي يتجاوز البعد الفردي ليخدم المجتمعات الأكثر احتياجًا، ويركز على تصميم وتنفيذ مشاريع اجتماعية، منخفضة التكلفة، مستدامة، وسهلة البناء، تستجيب للاحتياجات الملحّة للمجتمعات المتضررة.وتركز على:
- إعادة الإعمار بعد الكوارث.
- تصميم منشآت تعليمية وصحية منخفضة التكلفة.
- تحسين البنية التحتية في المناطق الفقيرة والمنكوبة.
- تعزيز المشاركة المجتمعية في التصميم والبناء.
- تعزيز التفاعل الاجتماعي من خلال تصميم الفراغات.
- توفير حلول سكنية مستدامة واقتصادية.
- استخدام مواد طبيعية ومستدامة.
هذه المدرسة لا تهتم بالمظهر الفاخر، بل بالوظيفة الاجتماعية والاقتصادية، وتعتبر العمارة أداة للتنمية.
التقاطع بين المدرستين
كلا المدرستين تشتركان في هدف واحد: خدمة الإنسان والمجتمع، لكن العمارة الإنسانية تركز على تجربة الفرد وجودة الحياة، بينما العمارة الاجتماعية تركز على العدالة الاجتماعية وتوفير حلول للمجتمعات الهشة.
أبرز روّاد مدرسة العمارة الإنسانية والاجتماعية:
1. حسن فتحي (Hassan Fathy) – مصر
- يمثل: العمارة الإنسانية والاجتماعية معًا.
- أهم الأعمال:
- قرية القرنة الجديدة (New Gourna Village) في الأقصر.
- مشاريع سكنية في الفيوم وأسوان باستخدام الطوب الطيني.
- النهج: اعتمد على العمارة الطينية التقليدية لتوفير مساكن منخفضة التكلفة، مريحة بيئيًا، مع إشراك السكان في البناء، مما جعل أعماله نموذجًا عالميًا في العمارة الإنسانية والاجتماعية.
2. فرانسيس كيري (Francis Kéré) – بوركينا فاسو / ألمانيا
- يمثل: العمارة الاجتماعية.
- أهم الأعمال:
- مدرسة غاندو الابتدائية (Gando Primary School).
- مباني مجتمعية في إفريقيا.
- النهج: إشراك المجتمع المحلي في التصميم والبناء، استخدام مواد محلية مثل الطين والخشب، لتحقيق الاستدامة والراحة، وحصد جائزة بريتزكر العالمية عام 2022.
3. Nader Khalili – مؤسس نظام Super Adobe
نادر خلیلی (1936-2008) كان مهندسًا معماريًا ومخترعًا إيرانيًا أمريكيًا، اشتهر بابتكاره نظام “سوبر أدو” (SuperAdobe)، وهو تقنية بناء مستدامة وقوية باستخدام الأكياس الرملية. استلهم خلیلی أساليبه من العمارة التقليدية الإيرانية ومن أشعار الشاعر الصوفي جلال الدين الرومي، وطوّر نظام سوبر أدو استجابةً لطلب من وكالة ناسا لتصميم مستوطنات بشرية على سطح القمر والمريخ.
- مؤسس نظام SuperAdobe ومؤسس معهد Cal-Earth.
- بنى ملاجئ مقاومة للزلازل في الشرق الأوسط وأفريقيا.
- يُعد أهم شخصية عالمية أعادت للطين مكانته كمنظومة بناء قابلة للتكرار في القرن 21.
- الفلسفة: آمن خلیلی بأن العمارة يجب أن تستخدم الموارد المحلية المتاحة لإنشاء مأوى فعال من حيث التكلفة للمحتاجين.
- نظام سوبر أدو: يعتمد هذا النظام على ملء أكياس طويلة بالتراب، ووضعها في طبقات متراصة، وتعزيزها بسلك شائك. ينتج عن ذلك هياكل قوية ومقاومة للزلازل والحرائق.
- معهد كال-إيرث (Cal-Earth): أسس خلیلی المعهد في عام 1991 لتدريس وتقنيات البناء المستدامة.
- التطبيق العملي: تم استخدام تقنية سوبر أدو في مشاريع سكنية في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك ملاجئ للطوارئ للاجئين، وذلك بفضل سهولة استخدامها وفعاليتها من حيث التكلفة.
أهم أعماله
- مدينة كالي-إيرث – كاليفورنيا (Cal-Earth Campus)
- المآوي الإنسانية في إيران وأفغانستان
- قباب SuperAdobe الصحراوية
تحليل معماري
- النظام الإنشائي يعتمد على أكياس الرمل كقوالب تُرصّ حلقيًا.
- يمكن لأي مجتمع استخدامه بمهارات بسيطة → ديموقراطية العمارة.
- حققت مشروعاته انتشارًا عالميًا كملاجئ مقاومة للزلازل والفيضانات.
4. شيغيرو بان – اليابان (معماري الكوارث)
النهج: ابتكار حلول سريعة ومنخفضة التكلفة لإيواء المتضررين، مع التركيز على الاستدامة وإعادة التدوير.
تميزه: حلول مبتكرة + مواد رخيصة + كرامة إنسانية.
شيغيرو بان: رائد العمارة الإنسانية المستدامة، الحاصل على أرفع جائزة تمنح سنويا للمبدعين في مجال العمارة. حيث منحت لجنة “جائزة بريتزكر للهندسة المعمارية” عام 2014 الجائزة للمهندس شيغيرو بان عن بناء وتوفير مأوى ومنازل ومراكز مجتمعية وأماكن روحية لمن تكبدوا خسائر فادحة ودمارا”.
يشتهر باستخدامه للأنابيب الورقية في تصميم ملاجئ مؤقتة للمتضررين من الكوارث، والتي تثبيت سريع، وتكلفة منخفضة، واحترام لخصوصية السكان
- كان بان يسافر إلى المواقع التي تشهد كوارث طبيعية أو بشرية بأنحاء العالم، للعمل مع السكان المحليين والمتطوعين والطلاب لتصميم وبناء مساكن ومنشآت اجتماعية بسيطة وكريمة ومنخفضة التكلفة وقابلة لإعادة تدويرها لضحايا الكوارث.
ومن أشهر أعماله: - ملاجئ الرواندا 1994
- كنيسة الورق: في كوبي باليابان – بعد زلزال 1995
- تم إنشاؤها بواسطة المعماري الياباني شيغيرو بان كبديل مؤقت لكنيسة تاكاتوري التي دمرت في زلزال كوبي عام 1995. تم بناؤها في خمسة أسابيع باستخدام أنابيب من الورق المقوى، وتميزت بكونها قابلة لإعادة الاستخدام. بعد عشر سنوات، تم تفكيكها وإعادة بنائها في تايوان. – تم بناء الهيكل الأساسي من أنابيب الورق المقوى (58 أنبوبًا) وضمن غلاف من ألواح البولي كربونات المضلعة.
- قاعات طوارئ نيبال 2015
- مشاريع لملاجئ للاجئين في أوكرانيا وباكستان.
5. كاميرون سنكلير – الولايات المتحدة (مؤسس Architecture for Humanity)
- أسس منظمة Architecture for Humanity عام 1999.
- نفذت مئات المشاريع في أكثر من 50 دولة. ومن أهم أعمالة:
- مدارس هايتي – منظمة Architecture for Humanity
- إعادة بناء المدارس بعد زلزال 2010
- هياكل مقاومة للزلازل
- استخدام عمالة محلية
- مراكز تدريب في كينيا
- مشاريع إسكان للاجئين في آسيا
6. ديبورا برلمن – الهند (عمارة التنمية المحلية)
- مشاريع سكنية منخفضة التكلفة
- مدارس ومراكز اجتماعية في المناطق الفقيرة
7. ألفار آلتو (Alvar Aalto) – فنلندا
- يمثل: العمارة الإنسانية.
- أهم الأعمال:
- قاعة بلدية سايناتسالو (Säynätsalo Town Hall).
- مكتبة فيبوري (Viipuri Library).
- النهج الإنساني:
آلتو ركز على التصميم الذي يراعي الإنسان، من خلال استخدام الخشب الطبيعي، الإضاءة الطبيعية، والأشكال العضوية التي تعزز الراحة النفسية.
8. بيتر زومثور (Peter Zumthor) – سويسرا
- يمثل: العمارة الإنسانية.
- أهم الأعمال:
- حمامات فالس الحرارية (Therme Vals).
- متحف كولومبا في كولونيا.
- النهج: التركيز على الحواس والتجربة الإنسانية داخل المبنى، من خلال الضوء، الملمس، والصوت، ليخلق بيئة شاعرية.
9. كينغو كوما (Kengo Kuma) – اليابان
- أهم الأعمال:
- متحف نيغاتا (Nezu Museum).
- مركز الفنون في طوكيو.
- النهج الإنساني:
كوما يدمج الطبيعة في العمارة، باستخدام الخشب والزجاج، ويخلق فراغات مفتوحة تتيح التفاعل بين الإنسان والبيئة.
10. ياسمين لاري – باكستان
- من هي ياسمين لاري؟
- ياسمين لاري تُعتبر أول معمارية معتمدة من باكستان وعمرها طويل في المهنة، وتحولت خلال السنوات الأخيرة إلى رائدة في العمارة الإنسانية منخفضة الانبعاثات (sustainable, low-carbon, disaster-resilient architecture).
- نفّذت مشاريع مساكن طوارئ وسكن مؤقت قابلة للتصنيع محليًا (مثل بيوت من الخيزران/الخشب المصممة لتكون رخيصة، سريعة التركيب ومقاومة للفيضانات). هذه الحلول استُخدمت في مناطق متضررة من الفيضانات في السند وبالوشستان.
- عملها يركّز على إعادة إعمار ما بعد الكوارث مع تقليل البصمة الكربونية واستخدام مواد محلية/قابلة للتفكيك.
- موقفها من جائزة وولف المعمارية:
- في يوليو 2025، تناقلت وسائل الإعلام العالمية خبر رفض ياسمين لاري قبول جائزة وولف المرموقة في العمارة، والتي تُمنح من مؤسسة إسرائيلية. قرارها كان صادمًا للبعض، لكنه في الوقت ذاته مثّل استمرارًا طبيعيًا لمسيرتها الإنسانية. فقد اعتبرت لاري أن قبول جائزة من مؤسسة مرتبطة بدولة تمارس سياسات قمعية يتعارض مع مبادئها الأخلاقية وموقفها الداعم للعدالة الاجتماعية.
- هذا الموقف لم يكن مجرد رفض لجائزة، بل كان رسالة قوية للعالم تؤكد أن الإبداع الحقيقي لا ينفصل عن الموقف الأخلاقي. وهكذا أثبتت أن المعماري لا يبني فقط جدرانًا وأسقفًا، بل يسهم أيضًا في بناء ضمير إنساني عالمي.
النقد المعماري لمدرسة العمارة الإنسانية والاجتماعية:
1. محدودية الميزانيات
الاعتماد على التمويل الخيري قد يعيق استدامة المشاريع.
2. الرومانسية المفرطة
بعض المشاريع تتعامل مع الفقر كحالة فلكلورية، بدلاً من معالجته كمسألة اقتصادية.
3. صعوبة التعميم
كل مشروع مرتبط بشدة بسياقه الاجتماعي—وبالتالي يصعب نسخه.
4. مشكلات الصيانة
تقنيات البناء منخفضة التكلفة قد تفتقر أحياناً إلى صيانة طويلة الأجل.
الخاتمــــــة: العمارة بوصفها فعل رحمة
العمارة الإنسانية والاجتماعية ليست مجرد اتجاهات تصميمية، بل هي فلسفة تسعى لتحقيق التوازن بين الوظيفة والجمال، وبين الإنسان والمجتمع. في عالم مليء بالتحديات، تصبح هذه المدارس ضرورة وليست خيارًا، لأنها تقدم حلولًا عملية ومستدامة تعزز جودة الحياة وتدعم المجتمعات الأكثر احتياجًا. وهدفها حماية كرامته. إنها ليست مجرد اتجاه معماري، بل حركة أخلاقية تدعو إلى:
- إعادة تعريف دور المعماري
- تحويل العمارة إلى أداة للعدالة الاجتماعية
- تمكين المجتمعات المهمشة
- دمج التراث المحلي مع تقنيات مبتكرة
- بناء عالم أكثر رحمة وإنسانية
وبذلك تقف هذه المدرسة في مواجهة تيارات العمارة التي تركّز على الشكل أو الفخامة، لتذكّر الجميع بأن العمارة تبدأ من الإنسان… وتعود إليه.
للحصول على مزيد من المعلومات برجاء متابعى على المنصات التالية:
الفيسبوك: https://www.facebook.com/profile.php?id=100088893776257
اليوتيوب: https://www.youtube.com/@ashrafrashad8031
التيك توك:https://www.tiktok.com/@ashraf.r1
الانستاجرام:https://www.instagram.com/ashraf.rashad.58/
