الاتجاهات المعمارية قبل ثورة 1919م: رأينا في المقال السابق الدور الكبير الذي قام به الخديوي اسماعيل في تطوير المعالم الحضارية بمصر، وكيف أجبره الإنجليز والفرنسيون على ترك منصبه، بعدما أغرق البلاد في ديون أجنبية ضخمة مهٌدت السبيل للأوروبيين للتدخل في شئون البلاد، وأجبروه على ترك منصبه لأكبر أبنائه توفيق الذي يعد أسوأ حكام أسرة محمد علي، وبعد قيام الثورة العرابية، طلب توفيق من بريطانيا التدخل لحمايته ومهد لإحتلال بريطانيا لمصر عام 1882م، واليوم نستكمل الحديث عن فترة حكم أسرة محمد على ووصلنا إلى الحرب العالمية الاولى وسنتحدث عن الاتجاهات المعمارية في مصر قبل ثورة 1919م.
الحرب العالمية الأولى (1914-1918): وتم معها إعلان الحماية البريطانية على مصر وتدفق الجيوش الإنجليزية وحلفاءها إلى مصر، وكذلك التدخل السافر والمتكرر للمحتل في شئون الحكم مصر بخلع الخديوي عباس حلمي، وتولية حسين كامل سنة 1914 حكم مصر، كما شهدت مصر مجموعة من الممارسات الاحتكارية الاقتصادية والتحكم في إدارة موارد ومؤسسات الدولة من قبل المحتل البريطاني منها على سبيل المثال:
- الازمة المالية العالمية وهبوط أسعار القطن في البورصات العالمية، واحتكار الحكومة الإنجليزية لمحصول القطن المصري.
- في عام 1908 أعلنت الحكومة البريطانية إعلان مد حق الامتياز لقناة السويس لمدة أربعين سنة أخرى تنتهي في 1968م.
- تنامي انتشار تأسيس البنوك والمصارف الأجنبية فكانت السيطرة والتحكم في الوضع النقدي في السوق المصري لمصالح الدائنين الأوروبيين.
- انفردت الشركات العقارية الأجنبية في احتكار التنمية العمرانية في مصر عامة، وفي القاهرة والمعادي وجاردن سيتي والزمالك وحتى الزيتون وحدائق القبة.
- كانت شركات المقاولات ذات رأس مال وقيادة أجنبية مثل شركة مصر الجديدة البلجيكية، وشركة المعادي الإنجليزية، بالإضافة إلى شركات المقاولات الفرنسية والبلجيكية كشركات رولان وايجيكو وفيبرو وشركة ديفارو الإيطالية وغيرها.
- الهيمنة الأوروبية على كافة المجالات المهنية، وفي مقدمتها الممارسات المعمارية التي تبنى المباني العامة التابعة للدولة ومحطات السكة الحديد، وبالتالي تحكموا في الطرز المعمارية، حيث توافد المهنيون والمتخصصون الأجانب، وغاب عنها المصريون تماماً حتى نهاية القرن 19 وبدايات القرن ال 20، فقد رأس مصلحة المباني الأميرية التي كانت تختص بوضع التصميمات والإشراف على مختلف مشاريع الدولة المهندس البريطاني ينوم وكان مهندسو المصلحة من الإنجليز أو الفرنسيين أو الإيطاليين، وتولى مصلحة السكك الحديدية والتليفونات آخر إنجليزي، ورأس مشروعات القصور الملكية الإيطالي فيروتشى، والذى تولى أيضاً رئاسة قسم الهندسة بوزارة الأوقاف، وتحول غالبية المصريين من الطبقات المتوسطة المتعلمة إلى أفنديات موظفين في الدولة محدودي المسئولية وغاب الدور التنموي والثقافي والفكري.
- ظهر في مجال الأعمال الحرة سواء للنشاط الفني المعماري والإنشائي مجموعة من المهندسين من جنسيات مختلفة (سوريين ولبنانيين ويونانيين وفرنسيين وإيطاليين) وأديان أخرى مثل اليهود يشجعهم كبار الملاك ورجال الدولة، منهم أجانب بحكم جنسيتهم التي احتفظوا بها، أو كونهم مصريون اكتسبوا الجنسية بحكم إقامتهم في مصر، فكانوا يستخدمون الشخصية التي تناسب العميل وظروف العمل. وهم: انطوان سليم نحاس، البير زنانيري، وماكس ادرعي، هنرى برنو، ارتشاركيان، شارل عيروط، ريمون انطونيوس، هنرى فريسكو، جاستون روسي، البير خوري.
- ثـــــــــــورة 1919م: كانت سلسلة من الاحتجاجات الشعبية كنتيجة لتذمّر الشعب المصري على السياسة البريطانية في مصر وتغلغلهم في شؤون الدولة، وطغيان المصالح الأجنبية على الاقتصاد، بالإضافة إلى إلغاء الدستور وفرض الحماية على مصر، وإعلان الاحكام العرفية في البلاد، وجاءت في أعقاب اعتقال بريطانيا لسعد زغلول وثلاثة من زملائه لتشكيلهم وفد مصري للمشاركة في مؤتمر الصلح في باريس، ونفتهم إلى جزيرة مالطا، فانفجرت الثورة في كل مكان في مصر، مطالبين بالإفراج عن سعد زغلول، فاضطرت السلطات البريطانية للرضوخ للمطلب الشعبي وافرجت عن سعد زغلول، هكذا حققت الثورة مطالبها، فقد ألغت بريطانيا الحماية المفروضة على مصر، وفي عام 1923م صدر الدستور المصري وقانون الانتخابات وألغيت الأحكام العرفية. ولم تستطع الثورة تحقيق الاستقلال التام، فقد ظلت قوة عسكرية بريطانية متواجدة في مصر.
عمارة القرن العشرين في مصر المحروسة والاتجاهات المعمارية قبل ثورة 1919م:
تأثر الصفوة من كبار رجال الدولة أصحاب المناصب العليا والأثرياء ذوي النفوذ والمسيطرين على حركة البناء و الإنشاء والتعمير في مصر، بالثقافة الأجنبية واختيارهم لطرز معمارية وتصميمات داخلية أوربية وتفاخرهم باختيار مهندسين معماريين أجانب لبناء قصورهم وفيلاتهم والعمارات السكنية كما يتفاخرون حتى بالأثاث الذى تصنعه بيوت أجنبية مشهورة على الطرز الأوربية السائدة حينها، واتجه المعماريين الى التقليد والاقتباس من خلال الطرز التاريخية المختلفة الموجودة في أوروبا، تبعا للظروف أو رغبات الزبائن، ومن تلك الطرز التي استخدمت في تلك الفترة:
أولاً: الطراز الروماني المستحدث (Neo-Roman Style) ومن أمثلته: 1- المتحف المصري بالتحرير:
2. المستشفى الإيطالي بالعباسية: إمبيدوكلي جاجليو (1867-1949) طبيب إيطالي استطاع بفضل مجهوداته أن يحصل على تمويل من الجالية الإيطالية فى ذلك الوقت، حيث كان تعداد الجالية في مصر يقترب من 50 ألفاً وكانت الجالية معظمها من الأغنياء، وافتتح المستشفى فى ديسمبر عام 1903، وقد طلب منه الملك فؤاد تولي مهمة تدريب الأطباء المصريين، ومن هنا بدأ مسيرته والتي قدم خلالها العلاج بالمجان للمواطنين الفقراء أثناء الحربين العالميتين، فضلاً عن مساهمته في تأسيس الجمعية الخيرية الإيطاليةوبذل كل الجهود لمعالجة الجرحى فى ، وفى نهايه الحرب العالمية الثانية منحه الملك فاروق قلادة النيل، وعقب عودته لإيطاليا منحه الملك الإيطالى فيكتور إيمانويل وسام فارس، وتقع المستشفى على مساحة 30 ألف متر، و تحتوى المستشفى على نحو 300 سرير منها أجنحة المستوى الفاخر جداً، والعديد من غرف العمليات ذات التجهيزات المتكاملة الحديثة، ووحدة طوارئ.
3. ومن الامثلة كذلك الغرفة التجارية المصرية بالإسكندرية.
ثانياً: طراز عصر النهضة المستحدث (Neo-Renaissance Style) ومن أمثلته:
قصر الاميرة عائشة فهمي: هي ابنة علي فهمي باشا قائد جيش الملك فؤاد وكانت أعنى إمرأة في مصر في ذلك الوقت، وكانت أيضًا زوجة الممثل والمخرج المصري البارز يوسف وهبي الذي كان من رواد السينما المصرية في بداية القرن العشرين، وكان والده عبد الله باشا وهبي صديقًا لعلي باشا فهمي. تم بناء القصر عام 1907، على نهر النيل بالزمالك على مساحة 2700 م 2. وتم تصميمه على الطراز الاوروبي الكلاسيكي من قبل المهندس الإيطالي أنطونيو لاسياك، يحتوي المبنى المكون من طابقين على خمس غرف بها العديد من فنون النسيج الأصلية واللوحات الزيتية الأوروبية للعديد من الفنانين المشهورين. بعد وفاة الاميرة عام 1962، استعادت الحكومة القصر، وتم تحديده كقصر رئاسي، قبل أن يخضع لإشراف وزارة الثقافة، في عام 1976، أصبح القصر مركز الفنون.
2. النادي الدبلوماسي المصري أو كلوب محمد علي: تم تشييده في بداية عصر الخديوي عباس حلمي الثاني (1892 – 1912م) ابن الخديوي توفيق، وتحديدا في عام 1908 قامت الطبقة الراقية بتأسيس شركة مساهمة برأسمال ١٤ ألف جنيه مصري، تم تقسيمها بين أفراد العائلة المالكة والباشاوات بمعدل ٢٠٠ جنيه مصري لكل عضو ، وكلف المهندس المعماري الفرنسي “ألكسندر مارسيل” اللي صمم قصر البارون إدوارد إمبان وكنيسة البازيليك في مصر الجديدة بتصميم النادي وقد صممة على طراز النيو باروك، وتم إنشاء النادي على ناصية مهمة بشارع سليمان باشا (طلعت حرب حاليا)، وكان الأمير أحمد فؤاد والد الملك فاروق هو أول رئيس شرفي للنادي.
ثالثاً طراز الباروك: ويتصف طراز الباروك بالاستخدام المتقن والمعقد للأعمدة والمنحوتات واللوحات المزخرفة من أجل الزينة
قصر الامير سعيد حليم: تم تصميم القصر على نمط طراز “الباروك”، الذي انتشر في أوروبا خلال عصر النهضة، أنشأه «الأمير سعيد حليم» حفيد محمد علي باشا، عام1895 كهدية لزوجته أمينة طوسون وأوكل للمعماري الإيطالي “أنطونيو لاشياك”(Antonio Lasciac) بتصميمه على مساحة 4,781 مترا مربعا، والقصر عبارة عن مبنى رئيسي من طابقين وبدروم وجناحين، وتتميز الواجهة الرئيسية بنمط معماري رائع التصميم به تماثيل فخمة، ذات عمودين يعلوهما عقد على هيئة نصف دائرة مزين بتماثيل صغيرة لرأس سيدة، ومزخرفة برسومات نباتات طبيعية وحيوانات، وللمدخل الرئيسي سلم يؤدي إلى سلمان فرعيان، والطابق الأول من القصر عبارة عن بهو كبير يمتد بطول القصر وينتهي بسلم مزدوج له فرعان يؤديان إلى الطابق العلوي، وللطابق الأول 6 أبواب تفتح على حجرات واسعة، والطابق الثاني يماثل الأول تماما، وللقصر بدروم يحتوي على غرف للخادمات، ومطبخ وحجرات للتخزين، ودورات مياه، أما الجناحان هما عبارة عن عنابر ذات حجر كبيرة، يحتويان على ملحقات للقصر يتصلان من خلال ممر به أعمدة على الجانبين.
- في عام 1934 أصدر الملك فؤاد الأول مرسوما بتحويل قصر الأمير سعيد حليم إلى مدرسة تابعة لوزارة المعارف وأطلق عليها المدرسة الناصرية الإعدادية
- وبعدها تحول القصر لمعسكر تدريب الضباط وقت ثورة يوليو 1952
يعاني القصر لسنوات طويلة من الإهمال نتيجة عدم الاهتمام به أو ترميمه أو صيانته، مما جعله عرضة للتشوه، ولا من منقذ لأهم قصور القاهرة التي تحكي تاريخها خلال الفترة الخديوية من تاريخ مصر الحديث.
طراز النيوباروك (الروكوكو): كما في محلات عمر افندي واحد من اروع مبانى القاهرة الخديوية تحديدا عند تقاطع شارع عبد العزيز مع شارع رشدى، وقد صمم هذا المبنى العريق المعماري الفرنسي راوول براندون فى عام 1909 على الطراز النيوباروك (الروكوكو) تمثل عمارة الروكوكو المرحلة النهائية لطراز الباروك، وكانت عمارة الروكوكو أخف وأرق
قصر السلطانة ملك: مزيجا من طُرُز العمارة الإسلامية والباروكية، وهو ما يظهر في التكوين الخارجي لبُرجِ القصر المماثل لتكوين المئذَنة، وكذلك في القبة الباروكية التي تتوسط أعلى سقف بَهوِه الرئيسى، كما يتضح هذا المزج أيضًا في تصميمات غرفه الداخلية للقصر وممراته. قام ببناء القصر المهندس البلجيكي إدوارد إمبان في الجهة المقابلة لقصره، بعدما شرع في تأسيس مدينة هليوبليس ليهديه للسلطان حسين كامل، واستعان كل من إمبان والأمير حسين كامل بالمصمم الفرنسي أليكساندر مارسيل لتصميم قصور لهما على المدينة الجديدة، فبني قصر البارون إمبان وقصر السلطانة ملك في فترة متزامنة بين عامي 1906 و1907م. ثم شاعت تسميته بقصر السلطانة ملك التي عاشت في القصر حتى وفاتها، وقد سجل القصر كأثر، وتم الانتهاء من أعمال الترميم فيه عام 2022م، وافتتح كمركز للإبداع الرقمي وريادة الأعمال.
كوبري أبو العلا: من أشهر المعماريين العالميين والانشائيين الفرنسي جوستاف إيفل وهو المهندس الذي قام ببناء برج إيفل الفرنسي الشهير، جعله هو المسئول عن بناء كوبري أبو العلا” وكان من أجمل كباري مصر هو كوبري من الحديد الصلب يقطع نهر النيل ويربط بين حي الزمالك الراقى وحي بولاق أبو العلا الشعبي، وبلغت تكلفته 4 ملايين جنيه. تم البدء في بنائه عام 1908وتم إفتتاحه عام1912 في عهد الخديوى عباس حلمي، وظل الكوبري يعمل حتى قامت شركة المقاولون العرب بتفكيكه عام 1998م. وذلك لبناء كوبري الزمالك الجديد مكانة.
عمارة القرن العشرين في مصر المحروسة: يتضح مما سبق انفرد المعماري الأجنبي في عهد أسرة محمد على باشا بالدور الريادي وكان منهم معماريين مبدعين سجلوا بصماتهم الإبداعية في مصر، ليس في العمارة الكلاسيكية والأوروبية فحسب بل في العمارة الإسلامية أيضا، من أمثال المعماري المبدع أنتنيو لاشياك الذي صمم مبنى بنك مصر، وقصر الامير سعيد حليم، والمعماري: مارسيل دور جنون، وماريو روسي، الذي صمم العديد من الجوامع المصرية وكان أبرزها جامع عمر مكرم في ميدان التحرير، والمعماري الإيطالي الكسندر مارسيل الذي صمم قصر المصرية الأرمينية ومستشفى هليوبوليس علي الطراز الإسلامي في مصر الجديدة.
لاحظنا مما سبق كيف غاب المعماري المصري عن الساحة المعمارية، والذي لم يبدأ دوره إلا في بداية القرن العشرين بعد مرحلة طويلة من احتكار الأجانب بسبب غياب التعليم المعماري المحلى في فترة الاحتلال البريطاني حتى أن مدرسة العمارة وهي “مدرسة الهندسة الملكية” تخرج منها خلال فترة الاحتلال 17 معماري فقط.
وسنتحدث في المقال القادم بأذن الله عن: رواد العمارة المصرية في القرن العشرين.
المراجع:
- أثر الثورات المجتمعية على تطور الفكر المعماري م. أيمان سامي عبد العليم عمارة
- إطلالة على المعماريين المصريين الرواد” من تأليف الدكتورة شيماء عاشور.
- مجلة عالم البناء العدد الرابع – والتاسع
- الموسوعة الحرة (ويكيبيديا).