عوامل نشوء وتطور الحضارة العربية الاسلامية: لقد أسهمت عدة عوامل في نشوء وتطور الحضارة العربية الاسلامية كانت المرحلة الاولي هي مرحلة التكويـــــــــــــن (مرحلة الترجمة والاقتباس)، ونجمل أهم العوامل في النقاط التالية:
- القرأن الكريم والتركيز على التوحيد الخالص لله تعالى: إن القيم الإسلامية بدعوتها إلى وحدانية الخالق، أقامت نظام الحياة على التكامل بين الدنيا والآخرة، والتكامل بين العلم والدين، وأن هـذه الرؤية المتزنة والموضوعية والفطرية أنتجت علوما وعلماء، ما تزال البشرية تعيش على آثارهم حتى يومنا هذا.
- أنها حضارة باقية بقاء الحياة على وجه الأرض، تستمد بقاءها من الإسلام الذي قامت على أساس مبادئه، أنها حضارة إيمانية، انبثقت من العقيدة الإسلامية، فاستوعبت مضامينَها وتشرّبت مبادئها واصطبغت بصبغتها، فهي حضارةٌ توحيديةٌ انطلقت من الإيمان باللَّه الواحد الأحد، البارئ المصوِّر، مبدع السماوات والأرض، الأول والآخر، الباطن والظاهر، خالق الإنسان والمخلوقات جميعاً.
- أنها حضارة قامت على عدم الفصل بين الدين والدولة، فالحضارة الإسلامية تؤمن بالدين الإسلامي كدينٍ شاملٍ ومنهجٍ أخلاقي كاملٍ لم يغفل جانباً من جوانب الحياة إلّا وتطرق إليه، ووضع له المنهج الصحيح الذي يضمن للناس السعادة في الدنيا والآخرة، هي حضارةٌ من صنع البشر نعم، ولكنها ذات منطلقات إيمانية ومرجعية دينية، كان الدين الحنيف من أقوى الدوافع إلى قيامها وإبداعها وازدهارها.
- أنّها حضارة اهتمت بالعلم والبحث العلمي، فأول ما بدء به الوحى على قلب الرسول الكريم محمد ﷺ في كتاب الله تعالى {إقرأ باسم ربك الذي خلق} [1]، تلك الآيه التى توجه الرسول في أول لحظة من لحظات اتصاله بالملأ الأعلى، وفي أول خطوة من خطواته في طريق الدعوة الى الله توجهة الى القراءة.
- فالقراءة وسيلة لطلب العلم من أوسع ابوابه والقلم كان وما يزال أعمق الأدوات أثراْ في حياة الإنسان، ولقد حظي العلم والعلماء في الشريعة الإسلامية بالعناية والتكريم الى درجة تضاءلت أمامها كل الشرائع والنظم، كما حث الاسلام علي النظر والتأمل في ملكوت السماوات والارض ورفع من قدر العلم والعلماء، وما من شك أن عظمة جلال قدرة الله تدرك عن طريق التفكير، وإمعان العقل في مخلوقات الله الكونية، ومن رحمة الله بالإنسان أن سخَّرها له وذلَّلها ومكَّنه منها ومن ذلك قولة تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[2]، ويعتبر الاسلام ان مكانة الانسان فى الدنيا والاخرة بعلمة الى جانب ايمانة فيقول تعالى {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}[3] ، وقال {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}[4]، وقال {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}[5]. ولقد أدرك المسلمين الأوائل أن التسخيرَ والتمكين، يقتضي الدراسةَ والبحث في نواميس الكون.
- ولقد كان القرأن محور إهتمامات المسلمين عند نزوله، وكان عليهم فهمه وتدبره لغوياً وبلاغياً وتاريخياً وإجتماعياً وثقافياً، ولتحقيق ذلك كان لا بد من تفسيره، فنشأ علم التفسير إضافة إلى علم القراءات، واستلزم ذلك الاهتمام باللغة فظهر فريق من العلماء تركزت إهتماماتهم حول جمع مفردات اللغة العربية وحصر الالفاظ الدخيلة عليها من لغات أخرى، ولما كثرت الأخطاء اللغوية، كان لا بد من وضع قواعد لهذة اللغة فكان علم النحو بالإضافة إلى علم البلاغة وعلم العروض[6].
2. الأحاديث النبوية الشريفة: والتي تدعو إلي أهمية العلم والتعلم ومنها قولة ﷺ “من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء هم ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر“[7]، فإن العالم يرث النبي في أخلاقه السامية، وسلوكه الرفيع من التواضع وحسن الخلق والحلم والصبر على المصائب والمتاعب وتحمل المشاكل من أجل أداء الرسالة، ويتصف بفضائل الأخلاق ومكارم الصفات أسوة بنبيّه، فإنه وريثه في أخلاقه الحسنة، وإنّ الكلام إذا خرج من القلب الصالح المتقي الخلوق دخل في القلوب، وإذا خرج من اللسان فانه لا يتجاوز الآذان. واعتبر رسول الله ان طلب العلم يعادل الجهاد فى سبيل الله (من خرج فى طلب العلم فهو فى سبيل الله حتى يرجع)[8] بل قد يكون أفضل من الجهاد كما في قولة ” لغدوة في طلب العلم أحب الي الله من مئة غزوة” و “طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة“[9]. ومما يؤكد على حرص رسول الله ﷺ على نشر العلم بين صحابته الكرام أنه بعد غزوة بدر عرض على الأسرى الذين يقعون في أيدي المسلمين: أن يقوم الأسير الذي يعرف القراءة والكتابة بتعليم عشرة من المسلمين، فإذا أتم ذلك اعتبر جھده مساويا ومقابل للفدية التي يتحرر بھا الأسير، فيطلق سراحه[10].
ولما كانت السنة المصدر الثاني للتشريع الاسلامي فقد تطلب ذلك جمع الأحاديث الشريفة بعد وفاة الرسول ﷺ ولقد بدأ جمع الأحاديث وتدوينها في أواخر العصر الاموي ولم تكتمل عملية الجمع إلا في النصف الثاني من القرن الهجري الثاني، وتمتاز كتب الصحاح بكون أصحابها تحروا صحة الرواية على أساس منهج التعديل والتجريح، وهو منهج نقدي، أما تصنيف الأحاديث وتبويبها فقد تم بطريقتين هما:
- طريقة المسانيد: وتستند إلى جمع ما روي عن كل صحابي تحت عنوان مسند “كمسند عمر ومسند أبي بكر” دون الاهتمام بالاحكام والموضوعات التي إشتملت عليها الأحاديث.
- طريقة الجوامع: وتستند إلى جمع الأحاديث وترتيبها حسب موضوعاتها، فتجمع الأحاديث المروية مثلاً في موضوع الطهارة والمعاملات والعبادات.
3. الامن والامان:
في ظل الدولة الاسلامية التي اتسعت رقعتها وامتدت حدودها من أقصى المشرق الي أقصى المغرب تم تحقيق قدر كبير من الامن والامان وهو الامر الذي يسر الرحلة في طلب العلم بحيث غدا الانتقال من بلد الي اخر في المشرق والمغرب من الامور المألوفة والشائعة، الامر الذي أدى الي ازدهار الحركة العلمية والفكرية في الحضارة الاسلامية.
4. جعل اللغة العربية هي اللغة الرسمية في العالم الإسلامي:
بذل الأمويون مجهودًا عظيمًا في نشر الإسلام، وركزوا جهدهم للفتوحات، وتوسيع رقعة مملكتهم الإسلامية، فوصلت فتوحاتهم إلى الصين شرقًا وإلى شواطيء المحيط الأطلسي غربًا، وبفضلهم استعملت جميع البلدان المفتوحة اللغة العربية كلغة رسمية، كما حافظ الأمويون على المؤسسات العلمية في البلدان المفتوحة، وبقيت كما كانت قبل الفتح الإسلامي؛ لذا استمر العطاء العلمي في جميع المجالات، مما دفع طلاب العلم من البلاد العربية إلى أن ينضموا إلى هذه المؤسسات العلمية لكي يتعلموا العلوم التجريبية باختلاف أنواعها.
5. بدايات حركة الترجمة:
- الترجمة في صدر الإسلام: ترجع البدايات الاولي لحركة الترجمة إلى صدر الإسلام في عهد الرسول الكريم وبتكليف منه، فقد ورد عن زيد بن ثابت t: قال لي رسول الله ﷺ: “أتحسنُ السريانية؟ فقلت: لا، قال: فتعلّمها فإنّه يأتينا كُتُب، فتعلّمتها في سبعة عشر يوماً[11]. ، قال الأعمش: كانت تأتيه كتُبٌ لا يشتهي أن يطّلع عليها إلا من يثق به” وفي سنن أبي داود: قال زيد بن ثابت أمرني رسول الله ﷺ فتعلمت له كتاب يهود، وقال: إني والله ما آمن يهود على كتابي، فتعلمته، فلم يمر بي إلا نصف شهر حتى حذقته، فكنت أكتب له إذا كتب، وأقرأ له إذا كتب إليه.
- كما ان بعض الصحابة كانوا ينتمون إلي اصول غير عربية (أعاجم) ومنهم سلمان الفارسى وصهيب الرومى وبلال الحبشى، ومن الطبيعي ان حركة الترجمة في تلك الفترة كانت محدودة للغاية مقتصرة علي ترجمة الرسائل التي بعثها الرسول r الي الملوك والامراء المعاصرين له ومنهم كسرى الفرس وقيصر الروم ونجاشى الحبشة والمقوقس عظيم القبط بمصر وغيرهم، وأقدم بردة في الإسلام تعود إلى سنة 22هـ، وعليها نص باسم عمرو بن العاص، وبه ثلاثة أسطر باليونانية والترجمة بالعربية تحتها، وبالتالي فإن بدايات حركة الترجمة قد ظهرت في صدر الإسلام.
- الترجمة في العصر الأموي: ورثت الدولة الأموية علوم الأعاجم من الفرس والروم بعد انهيار دولتهم، وكان لا بد من الاستفادة من ذلك التراث بترجمته ونقله إلى العربية بعد أن غدا “تراثًا تقليديًّا تداولته أيدي الشارحين والمحترفين ممن أجادوا اليونانية أو السريانية”.
- وتكاد تجمع المصادر التاريخية كلها على أن خالد بن يزيد بن معاوية (المتوفى 85هـ /704م وقيل 90هـ /709م) – والملقب بحكيم آل مروان هو اول من امر بترجمة الكتب الي اللغة العربية فأرسل إلى الإسكندرية في طلب بعض الكتب في الطب وعلم الصنعة (الكيمياء) لترجمتها إلى العربية، وذلك بعدما أقصى عن الخلافة طواعية.
- وقد وصف ابن خلكان خالد بن يزيد بقوله إنه كان أعلم قريش بفنون العلم، وله كلام في صنعة الكيمياء والطب وكان متقنا لهذين العلمين، ويقول عنه الجاحظ: أنه كان أول من أعطى الترجمة والفلاسفة وقرب أهل الحكمة ورؤساء كل صنعة، ويقال إن خالد بن يزيد استقدم من الإسكندرية راهبا بيزنطيا اسمه مريانس، وطلب منه أن يعلمه علم الصنعة، ولم يكتفي بذلك وإنما طلب من آخر اسمه اصطفن ترجمة ما أتى به مريانس إلى العربية.
- وفي عهد الخليفة عبد الملك بن مروان (65- 86 ﻫ) قام بأعظم هذه الأعمال جميعها في الترجمة وأكثرها خطرًا وأثرًا حين أمر بتعريب الدواوين؛ ففتح للعربية بابًاً واسعًا للانتشار والثراء.
- واستكل الخليفة عمر بن عبد العزيز (99- 101 ﻫ) جهود الترجمة بعد خالد بن يزيد، حيث أمر بنقل علماء مدرسة الطب من الإسكندرية إلى أنطاكية وحرَّان، سنة 100هـ، وأشار عمر على بعض الروم الذين كانوا في قصره، وكانوا يعرفون العربية أن يترجموا له بعض كتب اليونان، فترجموا له كتابًا في الطب.
- وفي عهد الخليفة الاموي هشام ابن عبد الملك (105 – 125هـ) ترجمت بضعة كتب منها كتاب السياسة عن الفارسية وكان لدى هشام من يترجم أو يراجع الترجمات مثل أبى العلا سالم ابن عبد الملك ونقل لة من رسائل “ارسطاليس إلى الاسكندر الاكبر”. ولا شك أن للأمويين اليد الطولى في إيصال العرب والمسلمين إلى مكانة مرموقة في الحضارة العربية الإسلامية، ولكن يرى كثير من العلماء والباحثين أن حركة الترجمة التي تمت خلال العصر الاموى، رغم انها تمثل حجر الاساس لحركة الترجمة عموماً إلا انها كانت حركة ضعيفة المستوي إذا ما قورنت بالترجمات الاخري والتي سنتحدث عنها لاحقاً في العصر العباسي.
- بعد وفاة الخليفة الاموي هشام بن عبد الملك عام 125 هـ، دب الضعف في أركان الدولة الأموية ومالت الدولة إلى البطر والظلم وتعاقب عليها حكام ضعفاء وظهرت الفتن، وانتهى الأمر بها إلى الانحلال والضياع، وجاءت الدولة العباسية بثورة مسلحة سال فيها الكثير من الدماء، على يد أبو العباس السفاح عام 132هـ، على خلاف الدولة الأموية التي بدأت بتنازل الإمام الحسن بن علي عن الحكم حقنًا لدماء المسلمين.
- وقد نقل العباسيون عاصمة الدولة بعد نجاح ثورتهم، من دمشق إلى الكوفة، ثم الأنبار، قبل أن يقوموا بتشييد مدينة بغداد لتكون عاصمة لهم، والتي ازدهرت طيلة ثلاثة قرون من الزمن، وأصبحت أكبر مدن العالم وأجملها، وحاضرة العلوم والفنون.
- وقد قسم المؤرخون وعلماء التاريخ الدولة العباسية لعهدين هما، العهد العباسي الأول والعهد العباسي الثاني. وفي العهد العباسي الأول: بدأ عصر جديد مع وصول الدولة العباسية ثالث خلافة إسلامية في التاريخ للحكم. وإستمر عصر التأسيس والتمكين والذي يعتبر العصر الذهبي للخلافة العباسية من عام (132 – 232 هـ / 750 – 847 م)، وفي هذا العهد سيطر الفرس على الجهاز الإداري والعسكري للدولة مما جعل العرب يبتعدون عن العباسيين، ظهرت الوزرات في هذا العهد واتسعت أركان الدولة الإسلامية، وحدثت نهضة علمية شاملة على كل المستويات، ومن أهم خلفاء العصر العباسي الأول، أبو جعفر المنصور وهارون الرشيد والمأمون. أما العصر العباسي الثاني فكان عصر التدهور التدريجي الذي إنتهى بسقوط الخلافة العباسية.
وبكدة نكون وصلنا لنهاية حلقتنا النهاردة عن: عوامل نشوء وتطور الحضارة العربية الاسلامية، وفي الحلقة القادمة بأذن الله سوف نتحدث عن: العصر الذهبي للحضارة الإسلامية (المرحلة الثانية: مرحلة الازدهار – ومرحلة الإبداع)
[1] سورة العلق: 1 [2] سورة فاطر: 28 [3] سورة المجادلة: 11 [4] سورة طه: 114 [5] سورة الأعراف: 10 [6]د. مصطفى عبد القادر غنيمات، الحضارة والفكر العالمي، دار الثقافة للنشر والتوزيع – عمان، 2012، ص 214) [7] رواه البخاري وأبو داود والترمذي و سنن ابن ماجه (223) [8]رواه الترمذي (2647) [9] سنن ابن ماجه (224) [10]. محمد بن سـعـد (ت سنة 250هـ/845م) كتاب الطبـقات الكـبرى (بيروت:دار بيروت، 1957 ،مجلد 2 ص 22) [11] رواه أبو داود (3645) و الترمذي (2 / 119) و الحاكم (1 / 75) و صححه و أحمد (5 / 186)