انطونيو غاودي Antoni Gaudí : (1852 – 1926) أحد أشهر المهندسين المعماريين الاسبان، ولد في عام 1852م في إحدى المدن التابعة لمقاطعة كتالونيا في إسبانيا، وعاش طفولته في معاناةٍ مع مرض الروماتزم في أقدامه، الأمر الذي حال بينه وبين اللعب مع أقرانه والتمتع بمرحلة الطفولة، ونتيجةً لهذا كان يمضي أغلب وقته بالتأمل، ومشاهدة الطبيعة، ودراسة الحركة، والنسبة والتناسب، واستغل مهاراته وحبه للطبيعة في الرسم ونحت الأشكال.
عُرف انطونيو غاودي بتواضعه وإيمانه الكبير بالله، وقد أثرت الفترة التي قضاها في دراسة الإنجيل في كنيسة إمتازت بموقعها الاستراتيجي وسط الجبال عليه، وحرّكت فيه حب التأمل للطبيعة والجمال الطبيعي للتضاريس من حوله، ثم انتقل إلى برشلونة لدراسة الهندسة المعمارية في العام 1868م، ولم يكن “غاودي” متفوقاً في دراسته الاكاديمية حتى أنه لما تخرج، قال له مدير مدرسة الهندسة المعمارية عندما سلمه شهادته: «لقد أعطينا هذا اللقب الأكاديمي إما لأحمق أو لعبقري، وسيظهر الزمن ذلك» وكانت نقطةُ انطلاقته الأولى في معرض باريس الدوليّ عام 1879م، حين صمم خزانة سلبت الانظار من جمالها، وفي المعرض تعرّف على صديقه رجل الاعمال “جيويل” وبدأ معه شراكةً في العمل وأسند لغاودي تصميم عدة مشاريع مثل جويل بافيليون، بارك جويل، كازا باتلو، كازا ميلا، كما أنه هو الذي رشحة لاستكمال مشروع كاتدرائية العائلة المقدسة بعد ذلك.
أسلوب انطونيو غاودي:
- في بدايات انطونيو غاودي كان متأثراً بالمباني التاريخية، وخاصةً مراحل العصور الوسطى وروائع العمارة القوطية، وتأثر كذلك ببعضِ أعمال العمارةِ الإسلاميةِ في الأندلس، واستوحى منها أفكاراً، وكان يعتمد الإفراط في الزخرفة.
- ثم بدأ تأثر غاودي بتجارب الفن الحديث والحركة الفنيّة في إسبانيا، وتأثر كثيراً بتيار ” الآرت نوفو ” في بدايات القرن التاسع عشر، حيث استلهم منه مبادئ العمل الحر والأفكار الإبداعية،والجرأة والقوة في انتقاء الكتل التشكيلية.
- تميزت أعماله بالجراءة والابتعاد عن الخطوط المستقيمة والاشكال الهندسية المنتظمة، وحاول الوصول إلى لغة جديدة معتمدة على مبدأ النحت الشامل للكتلة المعمارية، بدلاً من الاسلوب الذي اعتداد عليه معظم معماري اسلوب الارت نوفو وهو التوظيف الزخرف النباتي فن عناصر المبني.
- يُعدُّ انطونيو غاودي فناناً متصوفاً في المعنى العقائدي، حيث كان يَغلبُ على أعماله الطابعُ الدينيّ، ومن أقواله: ” المهندس المعماري غالباً يقول أنا صنعت، ولكن غاودي يقول “الله فقط هو الذي يصنع” ويقول أيضاً: ” أنا لا أصنع أنا أنسخ ” وذلك لأنّه يرسم كل شيء من الأشكال الطبيعية نفسه.
- اعتاد غاودي العمل على جميع المواد، واستخدم الخرسانة في أعماله لما تعطيه من حريةٍ في التشكيل والتكوين، وكان يفضِّلُ أن يقوم بنحتِ الأشكال التي يتخيلها بتماثيلٍ منحوتة من الجصِّ وبمقاييس ضخمةٍ 1:25 وأحيانا 1:10، ويحاكي الطبيعةَ وأشكالها الحرة في تصميماته، كإعطاء الواجهات الأشكال العضوية المستوحاة من الأصداف البحرية والأمواج والجبال والأشجار وغيرها من العناصرِ الطبيعيةِ من حوله، ونادراً ما رسم غاودي مخططات تفصيلية لأعماله، إذ كان يفضل تجسيدها بمجسمات ثلاثية الأبعاد.
أشهر أعمال انطونيو غاودي
مشروع بارك جويل Park Güel 1914-1900
حديقة عمومية وهي من أشهر المعالم إلى اليوم في برشلونة، ويعتبرُ واحدً من أهمّ أعمال “غاودي” التي تندمج مع الطبيعة الجبليّة الخلّابة، بعناصرها ومبانيها والمنعطفات والمنحنيات المستوحاة من المنطقة المحيطة، وقد طبّق في هذا المشروع نظريته التي تقول “إنّ الخط المستقيم لا وجود له في الطبيعة” وأضاف المنحوتات ذاتِ الأشكال الحيوانية، والزخارف التي تشكل في عناصرها المقاعد والجلساتٍ والنوافير، صمم الطرق في جميع أنحاء الحديقة لإبراز مدى جمال التلال شديدة الانحدار، مع ممرات المشاة المنفصلة في الأروقة. الحديقة تدعم مجموعة واسعة من الحياة البرية، ولا سيما الأنواع الغير محلية مثل الببغاء كما يمكن رؤية الطيور الأخرى من الحديقة، بما في ذلك النسر قصير الأصابع، واستخدم غاودي الألوان الجميلة والمتنوعة من الخزف في تزيين هذا المنتزه، وقد عاش “غاودي” في منزل صغير داخل الحديقة، وتم تحويل هذا المنزل الآن إلى متحف يحتوي على الأثاث الذي صممه غاودي. في عام 1984، أعلنت اليونسكو أن الحديقة هي موقع تراث عالمي تحت عنوان “أعمال انطونيو غاودي”.
مشروع كازا باتلو (Casa Batlloo)
الخيال الخصب لأنتونيو غاودي يظهر بقوة في أحد أعظم تصاميمه المعمارية الفنية التى تشبه قصيدة الشعر فى هذا المبنى … هذه التوليفة الفريدة له من أشكال الحيوانات، والإنحناءات الراقصة، والأشكال المستوحاة من العظام والهيكل العظمي.
الواجهة الأمامية: تكشف قوام وألوان وصور خاطفة للأنفاس, تعمل معا لتنشيط الخيال بأفكار كقصص ألف ليلة وليلة والأحلام الطفولية الخيالية. يُحاكي المبنى شكلَ القواقعِ البحريةِ في شرفاته وسقوفه المموجة التي تميلُ للتحرك، وتعطي إحساساً أشبه بالقصص الخياليّة في تعبيرها، مع الألوان التي ترتبط بانطباعات الحياة وتقلباتها. ونجد أكبر قطعة نحتية بالواجهة تلك التي تشكل حدود الشرفات والإطار الذي يحدد المدخل والذى يشابه العظام، بما يشبه عظمة الترقوة، والتي تبقي على لغة “الجسم” فى التصميم. وكلما صعدت بنظرك لأعلى، يستقبلك هذا التكوين المختلف والمهيمن للسقف والذى يشبه جلد الزواحف.
هذا الأسلوب المتفرد في استخدام الألوان اللامعة من الخزف المزجج والزجاج خلق هذه التحفة والتى من شأنها أن تدهش كل من يشاهدها إلى الأبد. اكتسب هذا المبنى شهرته من استبعاده للخطوط المنتظمة والمستقيمة، واستعماله الخطوط المنحنية والمتعرجة، مع الفن الممزوجِ بالبُعدِ الوظيفيّ الذي اختص به غاودي.
هذا الطراز إشتمل على كل العناصر الذى كوّنت ما يعرف بإسم الأرت نوفو ( Art Nouveau )، وهى مدرسة للفنانين الفرنسيين عشقت الزخارف والتى ظهرت فى أوروبا حوالى عام 1890م، وتناولت تأثيرات الأشكال المتعرجة في النباتات والطبيعة.
لقد استكشف غاودى فى هذا المشروع حبه للأشكال المتدفقة، والأنماط والألوان، وكان قد صممه لصالح تاجر القطن الثرى البارون جوزيب باتلو ليمثل تناقض حاد وسط الأشكال الصارمة التي تحيط به. وقد قدم تقنيات جديدة في معالجة المواد مثل بعض انوع الفسيفساء والمكونة من بقايا القطع الخزفية.
مشروع كازا ميلا Casa Mila 1910-1905:
قدّم غاودي في هذا المبنى حلولاً تصميمةً بديعةً اتسمت بالقوة والجُرأة. وذلك بإزالته لجدران الحمل الداخلية، واستعمال المواد الإنشائية الجديدة، والخطوط المنحنية، التي تعطي أشكال تموجية بشكل رائع وجميل، والقباب. أكدّ غاودي في هذا المبنى قدراته على النحت، وتطويع الموادِّ المختلفةِ وتوظيفها باحتراف في التشكيل، بالإضافة إلى اهتمامه بالجانب الوظيفي وبتوفير الراحة للمستخدم، ودراسته لحركة الرياح والحرارة من خلال المناور الداخلية. تم تكسية المبنى بالجدران الحجرية من الخارج، مع شرفات حديدية على واجهات متموجة، ونوافذ كبيرة، وعلى السطح تشاهد المداخن التي تشبه المخلوقات السريالية، بحيث يبدو المبنى وكأنه قطعة فنية للهندسة المعمارية. وأصبح المبنى علامة مميزة لعمارة برشلونة. وأعلن لاحقاً ان المبنى موقع للتراث العالمي من قبل اليونسكو، وتم فتحه للجمهور.
وأهم ما يميز هذا المبنى هو تصميمه المميز والمبتكر للغاية والذي جاء على شكل مبنيين مقوسان يتحدان من الأطراف ليكونا مبنى واحد دائري مجوف من الداخل مما يساهم في توصيل الضوء الطبيعي لجميع غرف المبنى، إلى جانب واجهته المميزة المصنوعة من الحجر والحديد وشرفاته المموجة ، مما يجعل تصميم وتنفيذ مثل هذا المبنى له متطلبات خاصة للغاية وكان من الصعب جدا تدبيرها في مثل هذا الزمن.
كاتدرائية العائلة المقدسة La Sagrada Familia 1926-1882:
في العام 1882م استحوذت جمعية القديس جوزيف على قطعة أرض في برشلونة، واسندت تصميم المشروع للمعماري فرانسيسكو دي فيلار، ولكنّ بعد عام استقال بسبب الخلافات مع الجمعية، فتم إسناد العمل للمعماري الشاب أنطونيو غاودي صاحب ال 31 عاماً لإكمال المشروع، فقام غاودي بتغيير التصميم الأساسي وفقاً لتوجهاته وأفكاره الإبداعية، وأدخل الأشكال المتموجة والمنحنيات بقوةٍ مع الزخارف والمنحوتات والنقوش التي تغطي الكنيسة بالكامل، وهو يشابه في هذا التوجه القوطي في بناء الكنائس، بحيث أصبحت قطعة فنية لغاودى، وكانت مزيج من ثلاثة أنماط معمارية هي: القوطية المتأخرة الإسبانية (Spanish Late Gothic) ، الباروك (Baroque) ، والآرت نوفو (Art Nouveau). واصبحت تعدُّ من أهمِّ أعمال غاودي في برشلونة، والتي اقتبس فيها من الثقافات والعناصر التاريخية المختلفة.
المسقط الأفقى للكنيسة: جاء فريد من نوعه، يتسم ورغم الأفكار الابداعية الجديدة في تصميمات الكنيسة إلا أنّها لم تختلف كثيراً عن النماذج التقليدية في تصميم الكنائس من ناحية الوظيفة الدينية. فجاء المخطط بشكل صليبي مثل باقي الكنائس، مع صحن مكون من 5 ممرات وجناح من 3 ممرات، وحنية بها 7 مصليات، وهناك ممرات مزدوجة، وثلاث بوابات وثلاث واجهات. المبنى كله جاء بأبعاد 90 مترا و 60 مترا، وسيكون من ارتفاع 170 مترا عند الانتهاء من بناء البرج الآخير.تحتوي الكاتدرائية على قبةً رئيسيةً يبلغ ارتفاعها 170 متراً، وتتكون من أربعِ واجهاتٍ رئيسيةٍ تحمل كُلّ واحدةٍ منها رمزيّةً خاصةً هي: ” واجهة للشرق تدعى ميلاد المسيح، واجهة الحياة، وواجهة للغرب تدعى الالام -أو- المحنة، واجهةالنعيم”. الكنيسه ليها ثلاث واجهات كبرى، واجهة للشرق تدعى الميلاد، واجهة للجنوب (لم تنته بعد) تدعى المجد، وواجهة للغرب تدعى الالام. واجهة الميلاد اتبنا ا قبل توقف العمل سنة 1935
وتضم الكنيسة 12 برجاً تمثّل الرسل الاثني عشر للسيد المسيح. تتشابه هذه الأبراج في تكوينها مع الأصداف البحرية، ومع النهايات التي تحتوي على أشكالٍ نباتيةٍ طبيعيةٍ، تحافظ على الهدف الأساسيّ بالإحساس بالبيئة والاستعارة من الأشكال الطبيعية، وتحاكي الواجهات في مرونتها حركة الأمواج. واستعمل فيها الزخرفة المفرطة في واجهاتها العضوية المستوحاة من العناصر الطبيعية، مع المنحوتات والتماثيل التي تزين المداخل والبوابات الخاصة بهذه الكنيسة، لان غاودي كان يرى بأن للزخارف بُعداً تمثيلياً يتمثّل في توجيهها إلى عالم الأحلام والتخيل.
أعطى غاودي لنوافذ هذه الكنيسة إحساساً مرهفاً بالإحاطة والأمان، واستلهم من العمارة الإسلامية فكرة الزجاج الملون لهذه النوافذ.كما حاول إعطاء المبنى طابعَ القدسيّة والشموخ والعلو، وإعطاء الزائرين إحساساً بالانتماءِ والاحتضان، وبرزت هذه الكنيسة كمعّلمٍ مميزٍ في وسط مدينة برشلونة تتمركز حوله كل الخدمات. أمّا من الداخل فقد اعتمد غاودي على الخطوط المموجة والأشكال المنحنية والارتفاعات العالية وكثرة زخارفه. واستُخدمت الأعمدة ذات الشكل الشجريّ، التي أعطت إحساساً بالاندماج مع الطبيعة.
قام غاودي بالعمل على هذه الكنيسة منذ عمر 31 سنة واستغرق عشر سنوات في مرحلة إعداد المشروع، ثم عمل عليه حتى وفاته في برشلونة عام 1926م بعمر 68 سنة، والتي حالت دون إكمال المشروع، وقد توقف العمل بالمشروع عام 1936م خلال الحرب الأهلية الإسبانية التي تم خلالها حرق جميع الكنائس ومنها هذه الكاتدرائية، وتسبب الحريق بخسارةِ أغلبِ المخططات الخاصة بها، مما جعل إكمال العمل عليها شبه مستحيلٍ، لأنّ المخططات القليلة التي تم العثور عليها كانت صغيرةً لا تكفي لاستكمال العمل، إلاّ أنّ غاودي لحسن الحظ ترك العديد من المنحوتات الجصّية التي كان يقوم من خلالها بإعطاء نماذجٍ مصغرةٍ للشكل الذي ستؤول إليه الكنيسة.
حاول بعض العمال العودة إلى إكمال الإرث الذي تركه غاودي ولكنّهم جوبهوا بالمعارضةمن قبل (100) معماريٍ معروف يطالبون بالتوقف عن إكمال المشروع، من أبرزهم ” لوكوربوزيه، والتر غروبيس، باولو بورتو غيزي ” وغيرهم، وكانوا يرون أنه يجب التوجه إلى الحداثة والمباني الزجاجية، وقد طالبوا إما بإيقاف العمل وجعله كمعلمٍ أثري ومتحفٍ، أو إقامة مسابقة وإعادة تصميم الكنيسة وفق توجهات الحداثة. وقد جوبه طلبهم بالرفض من قبل الحكومة المحلية،واستكملت الحكومة الإسبانية العمل في المشروع وفق المخطط الذي وضعه غاودي، وقد حددت عام 2026م تاريخًا لافتتاحها في الذكرى المئوية لوفاة غاودي.
وقد اعتبرت اليونسكو في الفترة ما بين 1984و2005 سبعة من أعمال غاودي على أنها مواقع تراث عالمي، ويزور الكنيسة سنوياً ما يقارب 3 ملايين سائح، ولم يكن انطونيو غاودي، أحد الأضلاع الرئيسة للعمارة الحداثية، ولم ينتمي لمدرسة معمارية معينة، بل شكل في ذاته مدرسة مستقلة فريدة، ونقطة تحول فارقة في عالم التصميم المعماري. استطاع غاودي أن يتجاوز التقاليد المعمارية السائدة ويخلق مزيجًا مميزًا بين الطابع الروحاني للعمارة وتعاليم الحداثة التي بلغت أوجها في بدايات القرن العشرين.
يمكنكم الاطلاع على مقال لي بعنوان: قراءة في عمارة القرن العشرين لتتعرف على تفاصيل أكثر.
المراجع:
نظريات العمارة – د. عرفان سامي
عمارة القرن العشرين – دراسة تحليلية للمهندس صلاح زيتون.
نظريات العمارة – د. هشام حسن علي